خلاف حلّاق وسعيد الفلسطيني .. رأيٌ آخر

مهنا الحبيل

30/6/2020

(يوجد كثير من الفلسطينيين ليسوا تحت الاحتلال اليوم، ولكنهم ليسوا بمعزل عن خطر التطهير العرقي المحتمل في المستقبل، يبدو الأمر مرتبطاً (في تنفيذ التطهير) بالأولويات الإسرائيلية، وليس بتراتبية للفلسطينيين أكبر حظاً، وآخرين أقل حظاً.)

إيلان بابيه

كثف إيلان بابيه أستاذ العلوم السياسية في جامعة حيفا، الذي انتقل فيما بعد للمملكة المتحدة مؤلفاته المناهضة للصهيونية، ركّزت كتبه على تاريخ إسرائيل الآخر، الذي يعكس حقيقة كونها مشروع إبادة، من خلال كتاب التطهير العرقي لفلسطين، وكتب أخرى، وكتاب مشترك مع نعومي شومسكي.

وتصاعد لديه تبني الوصف التاريخي الطبيعي، لصعود الحركة الصهيونية وتطبيقاتها على الأرض، وهو صاحب مقولة: أن الصهيونية أشد خطراً من التشدد الإسلامي، فاصطدم بعد ذلك بالمجتمع السياسي والأكاديمي الإسرائيلي، وطالبه رئيس جامعة حيفا بالاستقالة، انتقل بعدها إيلان لإنجلترا، بعد تلقيه تهديدات بالقتل.

من المهم إشارة رئيس جامعة حيفا لإيلان بالاستقالة، بناء على دعوة إيلان لتصعيد المقاطعة ضد إسرائيل من الخارج، وخاصة دعوته لمقاطعة الأنشطة الأكاديمية، كون أن المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية شريكاً مباشراً، في حصيلة الفكرة الصهيونية وتطبيقاتها، فرد عليه رئيس الجامعة، بأن عليك أن تستقيل من هذه الأكاديمية التي تدعو لمقاطعتها.

إن مدخل حلاق مهم للغاية في فهم عملية الاشتباك العميقة، مع مواقف المؤسسات الأكاديمية ليس في إسرائيل وإنما في الغرب ذاته، عن تجربة إيلان بابيه، الذي يشير إلى ما هو أوسع من الجامعات الإسرائيلية، وهو علاقة إسرائيل المشروع ليس بالكولونيالية فقط، ولكن بالحداثة المادية المنتجة لها، وعلاقة هذه الأكاديمية بالضرورة، ليس للتعميم على كل شخصياتها، ولا كل أقسامها، وإنما في الجوهر الغالب لحياتها ومخرجاتها الأكاديمية.

إن هذه الزاوية تشير لمعضلة مهمة، لفهم موقع دراسات النقد، داخل الأكاديمية الغربية، التي لم تُغيّر من جوهر الفكرة النطاقية الشمولية للغرب الحديث، ونظرية التمييز التي تحدد خارطتها، وهو ذات الشيء هنا، فدراسات النقد في الدولة الإسرائيلية، لم تغير من كون أن هذه الاكاديمية، تخدم قوة الدولة ونظرية الإبادة التي فُعّلت في أكثر من دورة.

هذا الاستنساخ واضح المعالم، ومنها أن الدستور الأمريكي لم يصنف الأمريكيين شعباً، وكذلك فعلت إسرائيل مع الفلسطينيين، فتحفّز إدوارد سعيد ووائل حلاق، على ربط مراجعات النقد الفلسفية اليسارية، أو الأخلاقية، بقضية فلسطين، كنموذج حي فاعل، فالعالم يشهد في كل يوم، مشهد صراع حي بين سكان الأرض الأصليين، والمستوطنين الإسرائيليين.

لا في المستوطنات فقط، ولكن في حركة تجريف الأراضي القديمة، وتصفية أي آثار طبيعية أو فنية أو دينية لها علاقة بسكان الأرض، فلنلاحظ هنا أن التهمة التي يتداولها الغرب، في توصيف الموقف في حاضر العالم الإسلامي وموقفه من (الآخر) كحالة تخلف، انتهت مزايدته إلى الدعم السياسي للدولة الدينية اليهودية.

وإعلان إسرائيل على عقيدة دينية شوفينية عنصرية، وهو أمر ليس غريب عن تسلسل الإبادة، الذي وثقه إيلان في رصد التهجير الممنهج، وإنما كان غائباً عن منصات الاستدلال، لنماذج التوحش ضد الأرض وإنسانها الأصلي، وتشريع استبداله بشعب مميز أفضل.

إن قلب الصورة مستمر، بين من هو صاحب الأرض أو الحق في الثروة القومية والطبيعة، وبين الإحلال الجديد، لنفوذ القوة القادمة من الشمال، فالمشروع الاحتلالي نموذج يُمثّل عقيدة (التقدم) الحداثي، تحيط به جماعات متطرفة تهدد وجوده، وهذه الجماعات هي ذات الشعب الأصلي من أصحاب الأرض، فعرب ال 48 ضمن خطة التطهير (للتقدم).

ويرصد حلاق، الدراسات التي وثّقت كون إسرائيل من أبرز الدول المصدرة للسلاح، في مناطق نزاع خطرة، حيث تحولت إلى أداة مباشرة لتفجير وتمديد النزاعات، وأن روح التزاوج بين المؤسسة الاكاديمية والمؤسسة العسكرية، يظهر جلياً في انتساب ذوي الرتب العسكرية، وتقديم محاضراتهم بالزي العسكري في الجامعات الإسرائيلية، وهو كذلك في جامعات أمريكية لكن دون بزة عسكرية أو مرتبة، ولكن الفكرة متحدة نحو نموذج الأكاديمي الغربي، المروج لمبررات الإبادة.

إن فكرة الشعوب الدونية المقابلة لإسرائيل، هي نفسها المؤصلة في جوهر مجتمع الشركات، والأكاديمية الغربية، وهي الجاذبية التي تستقطب المفكرين من الفلسفة الأخلاقية وغيرها، وتؤثر على عددٍ كبيرٍ منهم لصالح إدانة تل أبيب، فيشاركها سعيد وحلاق دعماً للحقيقة التاريخية، ففلسطين الوطن الأم لكليهما.

لكن حلاق يثابر في نقده لسعيد هنا، مشيراً إلى السطحية في نقده، الذي يتجنب أصول تكوّن النطاق المركزي، والاكتفاء بنقد السلوك في حالات السياسات الأمريكية، بدلاً من نقد التكوين الحداثي، وهذا يُطبق على الدولة الإسرائيلية أيضاً.

إذن هذا ليس خطأً في مضماره، لكن المشكلة التي قد يقع فيها حلاق أيضاً، هي الخوف من أن تتداخل هذه الدلالات وكثافة عرضها، فتؤثر على تراتبية المعنى الأصلي، في توصيف عهد الحداثة المادية وتفكيكها، فتُحوّل فلسطين إلى الجوهر، وسياسة اسرائيل إلى العَرَض، وهذا خطأ، فالجوهر حتى في المعنى الفلسفي الأشمل، يظل هو النطاق المركزي الذي صُنعت له نماذج عدة ولا تزال، ليس في فلسطين المحتلة ولكن في كل عالم آخر.

وهذا كله لا يُقلل من أهمية التدليل على النموذج الفلسطيني، لكن ضمن سياق الدلائل العامة لمخرجات الحداثة، وهو ضرورة للمتلقي لسعيد وحلاق وغيرهم، ألا تتوه الفكرة الأصلية، ويعتبر المشروع الإسرائيلي سلوك إجرامي، لا صناعة إبادية تناسلية.

وأمام ذلك، هناك مسؤولية كبرى على الباحثين العرب، في تحليل ظواهر الإبادة الأخرى، فلا يجوز طمرها، بل تدرس في الشرق دوافعها، وعلاقته بالمركز الغربي أو بالشرق ذاته، وحالة الاستقطاب الطائفي الذي حول التعايش بين الأديان والأعراق، إلى صراع أقليات وغالبية، فكان المشهد السوري الذي نفذ نظامه نموذج إبادة استخدم هذه الأرضية، فكيف نفهم ذالك في كوراث الشرق، إنها مسؤولية تاريخية للفلسفة الأخلاقية.