مهنا الحبيل

6/9/2022

تواصل أنقرة جهودها لصناعة جسور جديدة، مع البيت الخليجي والذي يتفاوت في موقفه منها، لكن هناك ترابط جيوسياسي مهم للغاية، للواقع الإقليمي لما يسمى بالشرق الأوسط، وهو في الحقيقة جغرافيا شملت الوطن العربي وجزء من حاضر العالم الإسلامي، ومثلت منذ قرون جسم الشرق المسلم الكبير، وإنما إضافة الكيان الصهيوني الغاصب، هو من فرض هذا المصطلح، وتركيا قديماً وحديثاً مرتبطةً بهذا الجزء المهم من الشرق، لكن استدعاء التاريخ لا يزال يؤثر في الطرفين.

والكثير لا يعرف بأن الثورة على السلطان عبد الحميد نفسه في الأستانة، التي عزلته ثم أسقطت عرش السلطنة العثمانية لا علاقة للعرب بها، ولم يكن لهم دوراً يذكر فيها، فمن قاد تلك الثورة هم الباشوات المقربين منه، والذين كان منهم جمال باشا السفاح نفسه، الذي انقذ لبنان من فتنته الأمير عبد القادر الجزائري رحمه الله، ففكرة ملاومة العرب ومفهوم الخيانة (الجيني) المؤسف، الذي يروجه بعض العرب وينتشر في تركيا بصورة واسعة، كان بعد تحول شيوخ بعض المناطق العربية للتحالف مع الإنجليز وغيرهم.

لكن هذا الأمر كان جانبياً ومتأخراً بغض النظر عن دوافعه وخطاياه، فسقوط مركز الدولة كان يشتعل في وجدان الضمير التركي وفي ثقافة الطورانية نفسها، ومشاعر الشباب التركي حينها، كانت بين الغضب والأسى على بدأ احتلال الأقاليم التركية القومية، في آخر العهد العثماني، وواقع التخلف الذي كانوا يستشعرونه بألم أمام تقدم العقل الغربي وحياته المدنية، وكان التخلف مع الأسف يربط باسم الإسلام، ولذلك وجدت الطورانية الحديثة ونزعتها العلمانية طريقاً مرصفاً في حينه، لإحتجاز الإسلام وإبعاده عن ضمير الفرد في تركيا.

لكن مفهوم الإسلام أوسع في تاريخ الشعب التركي، من صراع العلماء مع نظام الرئيس اتاتورك الذي قادته حركة التصوف العثماني، وهي البوابة الكبرى والوحيدة التي دخل الإسلام لتركيا عبره، وعادت مع صعود الروح الشرسة ضد الإسلام عند بدأ تأسيس الدولة الحديثة. وهناك مساحات في المضير التركي، لا تؤمن بتطبيق مفاهيم الدين، عبر زاوية التدخل في الحياة المدنية، لكنها تؤمن بمرجعيته القيمية وبضرورته للذات التركية، ولا تقبل البأس الشرس لمواجهتة الإسلام في حياة الفرد.

وحتى المفهوم العلماني لدى الأتراك، لا يرتبط كله بالضرورة بموقف بعض المعارضة العلمانية المتشددة، فهناك مساحة واسعة تحتاج للتفصيل، بما فيها موقف اسلاميي تركيا من الحياة المدنية المعاصرة، المختلف بين شرائحهم، ولكن الزمن الأخير الذي اجتاحت فيه الأفكار الغربية والإلحاد الوطن العربي، كان له تأثيره البالغ جداً في الشباب التركي كما هو في الوطن العربي، وبرزت حالة الفراغ في البحث عن سؤال الروح والتقدم معاً.

أي أننا كعرب وأتراك وكرد وحتى أبناء فارس، تؤثر علينا رياح المفاهيم الكبرى، وهو تحدٍ خطر على مستوى قيم الشعوب، والمشترك فيه واسع على مستوى القيم، والطمأنينة الروحية التي تستقر عبرها الأوطان، هذا في ميدان المشتركات الثقافية الملحة، التي قد لا تهتم بها سياسات الدول من الطرفين رغم أهميتها البالغة.

ونظن أن مفهوم الأمن القومي الجديد لتركيا والعرب في ظل صعود فكرة المحورين، يؤثر كثيراً على تركيا وعلى مصر ودول الخليج العربي، وغيرهم من الدول، المشكلة هنا أن الجميع يتعامل مع صعود المحورين بصورة منفردة، وهو أمرٌ يضعفه أمام محور الغرب القديم ومحور بكين/موسكو الجديد.

وليس القصد هنا أن تتخلى تركيا ودول الخليج العربي عن كل سياساتها المستقلة، ولكن الارتباط بتكتل جديد يستفيد من قيم عدم الانحياز، ليس عبر ذات المنظمة، ولكنه البحث عن مشروع مصالح خاص يصنع الفارق لدول المنطقة وشعوبها.

إن السوق المشتركة بين تركيا ودول الخليج العربية، واليمن والعراق، وحتى مصر، ممكن أن يخلق للجميع قاعدة مصالح تعزز قوة الأمن الإقليمي لهذه الدول، ولسنا نستثني ايران والتي تدخل اليوم في مفاوضات مباشرة مع الرياض، لكن وجود تركيا كطرف إقليمي مركزي، وندية عربية مقابله تجمعهم المصالح، يساعد في تجاوز عدم الثقة المبرر في سياسات طهران، وإشكالية مشروعها الطائفي، الذي لا يوجد في أجندة أنقرة.

المهم هنا هو أن تراجع الدول العربية سجلها، وأن تنظر إلى كيف تتحول صراعات الأمم إلى مصالح بعد حروب ونزاعات، وان هذا المفهوم مع تركيا أفضل من عقيدة الصراع، ولقد لا حظت أن أنقرة تسعى اليوم، للخروج من فكرة العثمانية الجديدة، التي ممكن أن تروجها بين مواطنيها العرب، ولكن من الخطأ أن تكون ثقافة تصدير للإنسان العربي، وهذا أيضاً يؤكد أهمية الخروج من رحلة المسابة المؤسفة التي رد بها العرب، لنفتح باب المستقبل لأجيالنا.

وكما أن حكومات الدول العربية وخاصة الدول المركزية كالسعودية، عليها كفل كبير في مراجعة لغتها وسياساتها مع أنقرة، وضبط خطاب السوشل ميديا الذي لا يزال مشتعلاً ضد الأتراك، رغم تجاوز ملف الشهيد جمال خاشقجي، فإن أمام حزب العدالة التركي مهمة ضرورية وعاجلة من شقين:

الأول : ضبط قرارات الترحيل في إطار إنساني للمقيمين العرب، وصناعة مساحة انتقالية وأمن لذوي الظروف الصعبة من السوريين وغيرهم، وأن التغير اليوم الذي يراعي مشاعر الشعب التركي ضد الأجانب والعرب على الخصوص، يمكن تفهمه لكن ذلك لا يعني تعريض الناس إلى خطر داهم، وإيجاد مراحل انتقالية تؤمّن هذه المجتمعات.

الثاني: هو منح الفكر الإستراتيجي مداراً أوسع في فهم العلاقات العربية التركية، اختلفت أو اتفقت مع سياسة الحزب، خلال الربيع العربي وبعده، تعتمد العقلانية لا التبعية المشروطة، وتستفيد من علاقاتها مع الشعوب العربية، دون أن تُستخدم لغة الولاء ولا العنصرية معهم، وتُنجيها من الرسائل السلبية التي قد توصل إلى أنظمة سياسية عربية تدفعها للتحفز الشرس ضد تركيا.