رينيه غينون..عقل فرنسا المسجون
مهنا الحبيل
31/3/2020
(يرى غينون أن الحضارة الغربية، هي الحضارة الوحيدة التي خلقت نمطاً من العلم، الذي لا يهدف إلا إلى المصلحة المادية، وتكديس الثروة وتطوير الأدائية، وقصر اهتمامها على الأهداف الصناعية، والاختراعات الميكانيكية).
ويتهم غينون بحسرة: الفلسفة الغربية الحديثة، بوضع حدود تعسفية والاهتمام بأمور دقيقة غير ذات قيمة.
ولقد منعت الدراسات الاستشراقية عن الإسلام، كل سبل الوصول لهذا الفهم لغينون، في ضوء أفكاره عن الثبات والاستقرار والتغير، كقوة لا نظير لها في الحضارة الإسلامية(..).
وائل حلاق
يقال أن ديغول رد على طلب الإذن باعتقال ميشيل فوكو، في أحداث جامعة فنسن، بأنه لن يفعل (حتى لا يُقال أن فرنسا تعتقل عقلها), والحقيقة أن دور فوكو الضخم في التأثيرات الفكرية أو مكانة الحفر التفكيكي، ضمن المنظومة اليسارية أو حتى داخلها، حقق سمعة كبرى لفرنسا باسم حرية المعرفة، وقد أعلنت باريس بالفعل اعتبار مؤلفات فوكو ثروة وطنية لقوميتها.
وباتجاه معاكس عبر تقييم الفكر يبدو أن باريس حيّدت، الفيلسوف الفرنسي رينيه غينون، حتى في لغة الترجمة عنه، من الرواق الاكاديمي حتى تعريف ويكيبيديا، إذ أن إسلام رينيه غينون وتمسكه بنزعته الصوفية حتى الرحيل، أسقط الميزان العلمي والفكري المفترض أن يتم التعامل معه، مع أفكار رينيه غينون، المستشرق الفرنسي الذي قرر ان يستقر في مصر 1930 ويتزوج منها، رغم أنه كتب قبل رحيله أكثر من 4 مؤلفات رئيسية، ضمن النقد الفلسفي الآخر الذي لا تعترف به أوروبا، وخاصة كتابه أزمة العالم الحديث.
وفي حين رفض غينون العودة الى باريس، فقد عاش حالة متقشفة بسيطة، وأعلن استقلاله عن الأكاديمية الغربية، التي كان من الممكن أن تُمطر عليه ثروة ومنصباً، لو تحول إلى فيلسوف يعرض الشرق بمرجعية الاستشراق الفرنسي، كما فعل رينان وماسينيون فيضمن حضوراً فخماً في أوروبا، ومرجعية تفرض نفسها على أروقة الشرق (المتخلف)، الذي يوضع دائماً في مقام التلمذة، أمام الاكاديمية الغربية.
وهي تلمذة قهرية ليست بسبب فشل النظام الرسمي في الشرق، منذ تخلف العثمانيين حتى استبداد العرب الجديد، بعد تقسيم أقاليمهم، ولكنها سياسة كولونيالية قائمة منذ عهد الاستشراق الأول إلى اليوم، فمن النادر أن تشجع الأكاديمية الغربية، روح الفلسفة الأخرى القادمة من الشرق، فضلاً عن النزعة المعرفية الإسلامية المجادلة فلسفياً للغرب، وبحسب د. حلاق فإن هناك اهتمام غربي جديد خلال العقد الأخير، بالنزعة الغزالية في الفلسفة التي طوّرها في الرواق الجديد غينون، في النصف الأول من القرن العشرين، وبالتالي يعود بعض الباحثين اليه اليوم.
وفي الحقيقة هنا وقفة مهمة للغاية في التأمل في التاريخ الاجتماعي للمؤلف ومعيارية التقييم، لا يمكن أن نغادرها اليوم، إذا كان هناك إرادة معرفة حرة بالفعل، تسعى للعودة للتشريح المنطقي، لخلاصات الفلاسفة المعاصرين، وفهم لماذا تصدرت رؤيتهم ولماذا طُمرت الرؤى الأخرى.
ونحن هنا أمام مثالين مهمين رغم التفاوت الزمني البسيط، حيث رحل فوكو في 1984 وسبقه غينون في 1951, غير أن الفارق المنهجي الرئيسي هنا، يُعطي أهمية بالغة لطرح رؤية غينون مقابل رؤية فوكو، وكون أن الظرف النفسي، في حياة الشخصيتين والسلوك الحياتي، والنهاية الأخيرة هي ضمن أدوات التفكيك الضرورية، فلا يجوز أن تغيب اليوم، ويثبت إغفالها وكأنه متطلب للدراسات الأكاديمية، أو يبرر بأنه احترام للاختيارات الشخصية للفيلسوف والمؤلف، فنحن اليوم بحاجة الى سوسيولوجيا حياة المؤلف للفهم العلمي، وليس لتحقيره أو تعظيمه الشخصي.
بل إنه في حالة ميشيل فوكو ظلت ممارساته المتعددة المنعطفات، ضمن ما قال رفاقه أنها تجربة أداتيه فلسفية أيضاً، لأفكاره وخاصة تاريخ الجنسانية، أما في حالة غينون الذي سنعرض لفلسفته مستقبلاً، سننظر هل بالفعل كانت فلسفة مكتملة الأركان بغض النظر عن صوابها أو خطئها، أم أنها كانت مجرد طلاسم أو تدوينات في علم غيب الارواح ونعتها بالميتافيزيقيا، الموظفة في مصادر توصيف مؤلفات غينون، وبالتالي أُخرج غينون من ميدان الفهم الإنساني، والتشريح النقدي لمآلات العالم الحديث.
وهذا كله لا يعني مطلقاً، أن نعتبر الجهد الذي أنتهى له فوكو محض خطيئة، بناءً على سلوكه، لكنه أيضاً، يعيد تذكير العالم عن أحد أهم مقدسات الغرب الفلسفية، التي سادت وظروف تأليفها، حين كتابتها.
ومنتصف الطريق المهم للغاية في معادلة فوكو، في النظر للمعرفة بمعزل عن القوة المهيمنة، هو متحد مع رينيه غينون، ولكن سؤال النصف الآخر، هو المغزى الأصلي لعالم اليوم.
سواءً استحضرنا إغراق رينيه غينون، في التفسير الروحي وفي قراره الذاتي لحياته الشخصية، أو استحضرنا منعطفات فوكو ونهايته، فنحن هنا نحترم المفكر، ونحترم الحقيقة التي سعى لها، ونفهم كيف أخفق في ذلك، وكما قال ارسطو أحب افلاطون ولكن الحقيقة أحب الي منه.
فإقدام فوكو على محاولة الانتحار، ثم توسّعه في السادية المثلية، وصولاً إلى دعم عريضة رفع الحماية عن القُصّر، بدعوى قبولهم، ووضعهم تحت الممارسات المثلية السادية التي كثف ممارستها، في تهديد مروع لعالم الطفولة، ثم إغراقه في مستقرة الأمريكي الأخير، في ممارسة السادية المثلية بعد جرعة مخدرات خطيرة، وخلال موسم إلقاء محاضراته، قبل أن يصاب بالإيدز في سان فرانسيسكو، ويموت بسببه، هي متداخلة بمعق مع ثقافة تسود الغرب اليوم للتفسير الجنساني للعالم، وإسقاط الأسرة.
فإذا كان هذا التصوف والانقطاع الروحي والزواج والقناعة به في البيئة المصرية، حتى أن غينون سمى بيته حباً لزوجته المصرية بدار فاطمة، وأن آخر كلمة نطق بها قبل الرحيل (الله)، كان ضمن مسببات تحييد فلسفة كتبه عن الاستحقاق البحثي، فإن ذات القاعدة ولأهمية أكبر تقودنا للنظر في ارث فوكو الذي أعطيت كل المنابر له، وعزل عقل غينون في سجن الحقيقة.