رينيه غينون.. فرنسيٌ تائه أم فيلسوف ثائر
مهنا الحبيل
14/4/2020
(لا يلتزم غينون بكل وضوح معايير فوكو، إلا أن تأثيره على باحثين كبار يشتغلون بالاستشراق وغيره، وعودة الاهتمام بأعماله خلال العقد الأخير، يشهدان على استمرارية قوة أفكاره، وأهميتها بالنسبة إلى الحداثة والاستشراق الذي هو فرع عنها)
وائل حلاق
سوف ننظر في هذا المقال إلى حقيقة التصنيف المستحق لغينون، في مضمار عالم المعرفة الإنسانية الجديد، الذي خسر كثيراً من خلال فرض الرؤية الأداتية الملزمة للأكاديمية الغربية، وجوهرها الحداثي المادي، على رواقها وحصار فلسفة الشرق، وهل كان لهذا القهر الحداثي في مؤسسات العلم الحديث، شرعيةً معرفية وتبرير أخلاقي، أم أنها كانت جزءً من منظومة تحيّز، يستيقظ العالم اليوم على حجم خللها في فهم النظام الكوني.
لقد كانت لغة غينون تخوض تحريرها الفلسفي في تفكيك الحداثة المادية، وكان الأساس المركزي الذي اعتمده هنا هو رفض الحتمية التاريخية، التي تُفرض على الباحثين والحياة المدنية المعاصرة، وخاصةً حين يربط التقدم بهذه الحداثة على الخصوص، ويربط غينون الفكرة (الدهرانية) التي ولد إطارها الجديد عبر كارل ماركس، بمركزية الحداثة المادية، وهي قضية مهمة للغاية، حررها وائل حلاق وتُثبتها القراءة العميقة لكلا الفلسفتين الإلحاد الماركسي، والوجودية الحداثية.
وبالتالي فالمنتج الأخلاقي بعد عزل المعرفة الموسوعية، ليس أكثر من كونه مكملاً ضروريا لدهرانية الغرب، فكلا المدرستين تتحول إلى (أداتية القوة المعنوية والجسمية للمادية وتنتج عملياتها التحويلية) بموجبها، فما هي النتيجة:
تعطيل قدرة الإنسان على النظر فيما وراء إدراك ما وراء الحواس، فأصبح إنسان علم الغرب المادي الحديث، أسيراً لعالم حسّي آني، ويدور في نظام مغلق لا يمكن أن يُفهم عبره شيئاً آخر.
وهذه القراءة لحلاق، تطرح السؤال اليوم بقوة على معارضي غينون، وتاريخ تهميشه، فما هي الأداتية المختلفة التي كان يتعامل عبرها غينون للوصول إلى حقيقة معرفية مختلفة، أين الصالح الإنساني المحض، من رفض هذه الأداتية المعرفية، هل تغييب النظام الكوني اليوم، بعد هذا الحصار الشرس للمعرفة، حقق هذا التوازن في جغرافية العالم، ما هو المبرر الذي احتجت به الأكاديمية الغربية حين منعت حداثتها، النظام القيمي الثقافي وتقدير طُرق الحضارات في فهم العالم والعيش فيه.
ولدينا دائماً صدمة شعور خشية للدخول في عالم غامض، أو صورة نمطية، تقتضي في ذهن الباحث، أو القارئ المتطلع للعدالة والتقدم المادي، في حركة الحياة، بحيث تُصوّر له كل هذه الحياة الصاخبة، وآثارها الذي يروج فيه (التسليع الإنسانوي) الفظّ، وتفجير الغرائز الشاذة حتى في الفنون، وحتى في متع الرياضة وميزانياتها المفجعة أمام جوع العالم، بأنها هي أيضاً من أعطته العلاج السريع، والرفاه الاقتصادي وتنظيم العقد الاجتماعي، والطموح للوصول الى العدالة الدستورية التي كرسها الغرب، والحقوق الفردية.
وهذا تضليل محض، ومع التحفظ الكبير على نتائج التوظيف الرأسمالي لمصطلح الديمقراطية، تحت علو المادية وهيمنتها على حياة الإنسان، فإن ذلك لا يعني التخلص من منتجات التكنلوجيا، وميسرات الحياة المعاصرة والقيم الأصلية للديمقراطية، وإنما تأسيس التعاطي معها أخلاقياً لصالح بقاء الإنسان، والخروج من قهر الأسواق الدكتاتورية، إلى فضاء معرفة ومساواة تجمع بين أخلاق الفرد وتضامنه، وبين أخلاقه مع الفطرة والطبيعة.
يُفصّل غينون في أزمة المضمار العلمي للحداثة المادية، بأن نتيجة تنحيتها (لله الخالق) قادها لأن تكون هي ذاتها بكل نظرياتها، المحققة وغير المحققة في حوار المعرفة، سواءً المنتكسة التي هوت بالحياة الاجتماعية وقوّضت العدالة وحقوق الأسرة، أو تلك التي نجحت في الوصول لعلوم إيجابية، بحيث أضحت كلها هي المبدأ العلوي والمبدأ العلوي هي، فكيف تُناقَش أو تُحاوَر وقد أخذت موقع المبدأ المرجعي؟
وبالتالي فهي تحكم على حضارات الشرق بعد أن أسقطت ميزان التقييم المستقل، وترفض النظر الأوّلي لبسط موازين المعرفة والعدالة، وينتهي غينون إلى أن هذه حالة جهل في الأكاديمية الغربية، ويواصل هجومه الثوري، بوصف فرض الغرب لرؤيته على كل حضارات الشرق، بأنها تمثل ذلك الطفل الذي دخل إلى حلقة من هم أكبر منه، بعد أن عرف بعض الأمور واشترط عليهم التعامل بما عرف، رغم أن ما جهله ممن هو أكبر منه كثير.
ويبدو هنا للبعض أن موقف غينون، يُظهر تطرفاً ضد الهيمنة الغربية، التي رعته قبل تمرده لتكريس هيمنتها، ولذات أهدافها، غير ان ما ينقص العالم اليوم يؤيد غينون، حين التأمل واستدعاء حصيلة الكتب والبناء على نظرية العلماء التي أبادها القهر الاستعماري، الذي عاشه الشرق تحت المشروع الكلي للكولونيالية، وقد أخذت منه مئات السنين، وأودت بحظوظ كبرى للمعرفة البشرية، عبر إبادة تناوب عليها التتر المتخلف والغرب المتعلم!
وهنا يعيد غينون الاعتبار للفلسفة الأخلاقية كمرجع، حين يذكّر بأن الاعتراف بالشرعية والأثر الإيجابي للعلم يلزم منه وجود وسيلة تربطهما ببعض وبمستقر دائم، – في إشارة للنظام الكوني وسنن الخالق- وبدون ذلك فإنه لا احترام لحضارة تفرض سيادة عقلية لها تحت أكذوبة حرية التفكير.
ويستدعي حلاق هنا معنىً آخر للحرية التي أسماها إزايا برلين (أشعيا) وهو فيلسوف لبرالي بريطاني شهير، وهي (الحرية الإيجابية) غير أن برلين ذاته، نفى أحقية هذه الحرية الإيجابية، ربما بسبب مخاوفه من البطش الشيوعي الذي هاجر والديه بسببه، ولكن ملامسة برلين هنا، تؤكد حضور هذا المعنى الدقيق والحسّاس، الذي يعكسه رينيه غينون.
ما هي الحرية الإيجابية في المعرفة، مقابل الحرية السلبية التي نصبتها الأكاديمية الغربية مرجعاً، رغم ماديتها وتطرفها ضد بقية الحضارات، هنا نفهم أن فكر غينون أمام هذا الإرث المهيمن على المعرفة لم يكن إلا ثورة فلسفية، سعت لرد الاعتبار لقيم الإنسانية بغض النظر عن عدم استكماله تقديم البديل، فقد أُغلقت دونه الأبواب منذ أن أعلن ثورته!