سؤال الأمة الواحدة في القوميات المتصارعة
مهنا الحبيل
لا أظن أنه توجد صورة لواقع بؤس علاقة المسلمين مع بعضهم أشد حُلكة مما هي صورته اليوم؛ فعلى طول خريطة الشرق المسلم -آخذين في الاعتبار وجود الجاليات المسلمة بموطنها الجديد في المهجر- يُعاني الناس من صور انقسامات متعددة، ولنا أن نستعرض كمقدمة كيف يشتعل الصراع الكردي/التركي والفارسي/العربي في أحداث اليوم، وهم يساقون بعصا تحركهم جميعاً.
وتتداخل صراعاتهم في مآزق خطيرة بصورة معقدة، تضطرب فيها الحدود وتستعر النفوس، ويتضح للمراقب أن هناك مشروعا غربيا بالفعل يحصد وراء هذه الصدامات، كما هي تجربة رحلة الصراع بين الشرق المسلم أو الجنوب العالمي مع الغرب الاستعماري.
لكن الكارثة هي أن تطوّع المسلمين أنفسهم دولاً وجماعات هو من كفل هذه الأرضية للانقسامات، التي تُعتمد فيها حدود وخطوط فاصلة، لكن عبر دماء وضحايا وفوضى مستعرة، وأمام ذلك كله تضطرب الفكرة المسلمة في وجدان الشباب، بعد أن طوّقتها رياح الاستبداد، وفجعتها نهايات المشهد الدامي للشرق الإسلامي.
إن مقصد هذا المقال ليس الوقوف عند الأوضاع السياسية القائمة اليوم في صفحة هذا الصراع الحالية، لكنه يبدأ به للتمثيل لتشخيص المرض، فواقع المثلث الكردي -الذي تم تفعيله لمصالح الاحتلال الأميركي للعراق، ثم مصالح التدخل الروسي والإيراني في سوريا- عاد ليُهدم بعضه في صفقات سياسية عسكرية، لا نعرف إلى أين تتجه.
وهل ستتحول إلى كرة ثلج تتدحرج لخلق صراع تركي قومي وكردي قومي شامل، أم إنه سيقف عند حدود صفقة كبرى. هذا ما نتمنى أن يتنبه له الأشقاء في الضفتين، وهنا لا نقصد أن نتبنى مطلقا التهمة الموجهة للكرد بالتعميم المسيء، والتي نرفضها وندرك معاناة الرحلة والتغريبة الكردية الصعبة، ولا نُلغي أيضاً مسؤولية موقف الإقليم وقيادة مسعود البارزاني، الذي ورّط المنطقة بالفصل الأخير، ثم جاءه الغدر من الصف الكردي ذاته الذي اخترقته طهران منذ سنوات.
لكن القضية لم تبدأ هنا.. فنحن أمام إشكالية كبيرة؛ فالطرف الإقليمي المنتصر اليوم -وهو النظام الإيراني- هو الذي تعاون قديماً بشكل كامل مع واشنطن في التقسيم الاجتماعي ثم السياسي، فهل بسطُ إيران سيطرتها على العراق كاملاً (بما فيه إقليم كردستان) سيكون مدخلا للاستقرار أم الارتداد الثقافي، وغلو الحكم السياسي الطائفي وتأثيراته على المنطقة؟
وفي المقابل؛ فإن محاولات تركيا خلق جيوب أو مشاريع مقاومة للخرائط التي كانت ستضعف نفوذها، وفشلها المتتالي في حلب وفي الموصل؛ دفعها -بعد تأزم العلاقات مع روسيا- للتنسيق معها لتتدارك مصالحها القومية في سوريا والعراق، وهي مشاريع تؤسّس على منظور مصالح قومية ثنائية، رغم أن الروس هم أبرز الشركاء في هذه المذابح التي نددت بها أنقرة.
ومبرر الموقف التركي هو أن انتهاء مساحة انتصار الثورة السورية كلياً وضعف فرصها في المشهد الدولي، أصبح تحصيل حاصل؛ وهو ما يجعل موقف أنقرة الساعي لضمان السلم لبعض مناطق الثورة كإدلب وغيرها إيجابيا للشعب السوري.
كما أنه بحسب التبرير التركي فإن إشراف أنقرة على فريق سياسي سوري يتفاوض لإنهاء تركة الثورة السورية في عهدها المسلح، سيكون إيجابيا لسُنة سوريا بعد الخسائر الفادحة للشعب، وبالتالي هو تقاطع مشروع أمام منصات أخرى في القاهرة والرياض وموسكو، تتسابق لتقديم تصور لا يحمل أي حد أدنى لأحلام الثورة السورية، وإنما هو مشروع تصفية سلمي لها لا أكثر.
إن المنطقة تُسدد آثار هذا الصراع المصلحي من أمن شعوبها الجماعي، ولا يوجد حل مطروح لتحقيق تقدم واستقرار شامل للمشرق العربي اليوم في ظل هذه التقاطعات، والحالة العربية أسوأ؛ خاصة بعد أن انتهت أزمة الخليج العربي إلى عنصرية شوفينية خطيرة تدمر وشائج الشعوب، وتلقي باليمن إلى مستقبل دموي مجهول لتقسيم المصالح.
لقد تم نشر هذه الحرب الجاهلية في الخليج أمام العالم، ليتبين الناس أنه حتى مسألة الوحدة الاجتماعية لإقليم الخليج العربي -التي حرصت عليها شعوبه- يتم تمزيقها في أسابيع، بل يُقدم نموذجاً موغلاً في الكراهية بين أبنائه تقوده منصات رسمية، وتُطرح فيه إسرائيل وموقف الرئيس الأميركي دونالد ترمبشركاءَ يُستدعون كحلفاء، لتَدخُل مصالحهم شريكاً في هذه الأزمة.
استغرق التصعيد الطائفي مدىً كبيراً من عمر المشرق العربي في الصراع بين العرب وإيران، ومشروع توسع طهران السياسي والجغرافي كان كرة نار حقيقية، لكن المشكلة هي أن الموقف الرسمي العربي، لم يتعامل مع هذا النفوذ بذكاء ولا بمسؤولية تضطر معها إيران إلى الخضوع لقواعد مشتركة لمصلحة الشرق جميعا.
فتم استخدام تصعيد طائفي سني رداً على طائفية إيران الشيعية وتوحشها، والذي ينخفض اليوم فجأة كدلالة على أنه كان يخضع -في كثيرٍ من مساحته- للتوظيف السياسي في الخليج، ثم أغلِق ملفه وبدأت المنطقة في صراع تركي/إيراني مع الكرد، وعربي/تركي، في ظل التصعيد المتجدد من مصر ودول خليجية ضد حكومة حزب العدالة والتنمية.
إنه من المفارقات المحزنة أن ترى شماتة متبادلة بين الكُتّاب الأتراك مع صيحات الكرد الأخيرة عن خطر المشروع الطائفي لإيران وهو يقتحم كركوك، وقد كانت هذه هي اللغة التي أعلنتها أنقرة ضمن توصيف حقيقي لمشروع النظام الإيراني أيام خصومة أنقرة مع إيران.
ثم تنظر أيضاً كيف انقلب التحالف الكردي الذي شارك إيران والبيت السياسي الشيعي في العراق مركزية فكرة الاحتلال والتقسيم الفدرالي، واشتعل الخلاف بينهما بعد توسع القوة الكردية في منابع النفط، ولكن بعد سجل حافل من التحالفات.
إن الذي ينظر من موقع يعلو كامل طاولة الصراع في الشرق المسلم، وساحة الحرب في قلب المشرق العربي؛ يستطيع أن يُبصر أن هناك قوة مركزية مستفيدة من كل ما يجري، وخاصة حين أعطت واشنطن الضوء الأخضر للنفوذ الإيراني ليقتحم كركوك.
وهذه القوة تحضر تبعاً لفلسفة الغرب التاريخية، ليس بالضرورة أن تنفِذ هذه الفلسفة كل مفاصل المعركة، لكن الواضح أنها تتعامل بواقعية واستعداد وتحريك ذكي لأحجار الدومينو فيها.
فماذا عن إيران والبعد الفارسي؟ هناك إشكالية مزدوجة في هذه القضية؛ فالحالة السياسية التي تُطبق بها إيران هذا التوسع تجعله في حقيقته مشروعا عدائيا للمسلمين العرب بحسب نتائجه على الأرض، فيُضعف بنيتهم من داخل دولهم ويشطرهم.
لكن إيران أيضا تركز في ردها على علاقة العرب بواشنطن وتبعية أنظمتهم لها، واستخدامها للبنية الرسمية العربية لعقود خلت، وتبرر ضمنيا زحفها الذي ساهم في أسوأ انقسام عربي، وهو الانقسام الاجتماعي باسم الطائفية الذي تصعب معالجته.
فماذا يمكن للثقافة الإسلامية أن تفعل أمام هذا الانقسام؟ هناك في التاريخ سجلات سيئة من تداخل الصراع القومي بالدول والبلدان المسلمة، وخاصة في تاريخ الدولة العباسية وتوابعها.
كما أن هناك إشكالات في قضية معارك الدولة العربية المسلمة، وفرز مصالح السلاطين -منذ أيام الدولة الأموية- عن مصالح الأمة، وعن روح خطاب الأمة المسلمة الذي يتبناه أصل الدين الإسلامي، وعلاقة الطوائف وحقها الإنساني فيه.
وإعلان الثقافة المسلمة أن هناك صراعا أصليا بين القوميات باسم الدين لا يُمكن أن يكون حلاً ولا مبدأً؛ فالإسلام رسالة شاملة جامعة تلمّ شعث المسلمين، ومن أجمل صوره نموذج الوحدة الذي يجمع بين أقوامهم وأعراقهم ويوحدهم تحت مظلة التقوى، لكن الفساد والاستبداد السياسي كان يشجع هذه النزعات التي يتقوى بها، فالقيم الإسلامية -التي هي الضامن للوحدة والعدالة- ليست مادة مناسبة لتعزيز سلطته، بل هي خصم له.
ولذلك لجأت أنظمة الاستبداد عبر التاريخ إلى تغذية التخندق المذهبي، والعصبيات القومية في العرب أو الشعوبية في غير العرب، وهو نفس الوباء الذي نشره المستعمر، لكن في كلتا الحالتين كانت هناك أفواج من الحمقى والمرضى في تعصبهم، هم من حُركت بهم رياح الانقسامات المجنونة.
وبالتالي فإن أزمة فارس الجديدة اليوم هي هذه الثنائية التي تعزز قبضة النظام الإيراني، وتُفهم فكريا في هذا السياق؛ لكن يجب ألا تُعلن كمادة فكرية تنقض الميثاق الإسلامي الموحِّد لكل المسلمين، فكيف تتم إعادة هذا الميثاق؟
سؤال صعب للغاية، لكن أهم بند هو ألا تُترك حدود الصراعات والمصالح لحكومات المنطقة عرباً وعجماً، ليقدم كل منها إسلاماً تم تحريفه ليخدم اجندته، فلتُرفع رسالة الإسلام البلاغية لتبقى جامعة أممية، لا رماحا تحمل شعاراً مزيفاً لمصالحها السياسية والقومية.