Categories: مقالات

سؤال الدولة الاسلامي والاستئناف الفكري

سؤال الدولة الإسلامي والاستئناف الفكري

مهنا الحبيل

وقفنا في إعادة تحرير النموذج الماليزي على سؤال فقه الدولة، الذي انتهت إليه التجربة فأين هو في محل الاقتداء؟أشرنا سابقاً الى انضباط المجتمع المالاوي الجديد، على الحفاظ على عقيدته القومية (الإسلام)، وتسامحه في نفس الوقت، وهذا يلاحظ في طبيعة الذات المالاوية، وهدوء الطبع، في مقابل حدته عند العرب، غير أن الأمر ليس إيجابيا بالمطلق، وهو ما اشتكى منه مهاتير محمد في كتابه الشهير أزمة المالايو، والذي لا يزال سؤاله قائماً، كيف يتحول الجيل الحالي والقادم، الى روح متفاعلة تنهض بمسؤولياتها الذاتية، في الإبداع والمشاركة، ليَحمي الملايو وطنهم وتقدمه. لكن الركن الذي غاب عن المادة السابقة، هو دور الاتفاق السياسي الأول، الذي نظّم حكم السلاطين، وجعله دورياً لتولي المُلك، وأعطى السلطة لمن ينتخبه الشعب، فنظم فصل السلطات، وساد في المجتمع الماليزي استقرار سياسي، لم يتعارض مع النمو الديني، وكثرة الحلقات والتعليم الشرعي، الذي ربما كان يحتاج ولا يزال، الى رافعة مهمة تخرجه الى فقه النهضة، الذي تتقوى به الدولة المعاصرة، ولذلك لعبت الجامعة الإسلامية العالمية، ومؤسسيها الآوائل وخصوصا د. عبد الحميد أبو سليمان رحمه الله دوراً مهماً في هذا التحريك. لكن لا يزال هذا المدار من العلوم، يحتاج الى ثورة فكرية واكاديمية، تحول التعاضد والتصالح بين المرجع الاكاديمي الماليزي، والمنظومة الشرعية في الفقه، الى مشروع تكامل علمي حيوي، يؤسس لنظريات عمرانية في فقه الدولة والمجتمع. وفي العودة الى مفهوم اسلمة المعرفة، وتجريد التراث لتحرير أرشيف فكري يقابل منتج الحداثة الغربي، وهي مهمة لا تستطيع كوالالمبور القيام بها وحدها، ولكنها منصة تقود هذا الاستثمار وتستقطب المبدعين من العالم الإسلامي الكبير.هذا المتنفس الذي وُلد في ماليزيا تحت الملكية الدستورية، وتجاوزها لصراعات صعبة جداً، وفتن داخلية اشعلت بين الصينيين الماليزيين وبين اهل البلاد الأصليين المالايو، كانت تعتمد التجربة فيه على مرجعية هذا النظام الدستوري، وهو حجر الأساس في تحقيق هذا الاستقرار السياسي، فأين يقف هذا الهدف في عالمنا المسلم اليوم؟إن الحديث هنا ليس عن كون النظام الدستوري مرجعاً حصرياً، لفقه الدولة، ولكن على دلالته في تنظيم الحياة الاجتماعية السياسية، بين مسلمي كل دولة ومواطنيهم، دون أن تُنحّى الشريعة الإسلامية، في مقاصدها العليا، فمجرد أن يكون هناك نظام قانوني لا يتغول فيه الفرد ولا يُعبد فيها الحكم، أو يُقدّس، أعطى مساحة مهمة لحراك الأفراد والمطالبة بحقوق المواطنين، رغم كل الإشكالات التي عاشتها التجربة الماليزية، والانتكاسات قبل د. نجيب عبد الرزاق وبعد توليه الحكم.إن السؤال هنا يُطلق رحلة فقه الدولة في الفكر الإسلامي، والذي ولدت أقطاره أصلاً في أوطانٍ ملزمة دولياً بحدودها، وبتعريف سياستها ضمن مواطنتها داخل هذه الحدود، فحتى طالبان لا تبدي أي سلطة أو رعاية لطالبان باكستان، وتعلن خلافها معها، ويحكمها اليوم ثقافة سياسية حذرة مع اسلام اباد، بسبب الدور السلبي الذي تعتقده طالبان في مهام المخابرات الباكستانية، المتحالفة مع الغرب، وهي ذات القوة التي ازاحت عمران خان، واعادت سلطة الجيش المطلقة والفساد السياسي.هل هذا يعني أنهُ لا توجد أصولاً، لتحرير فقه الدولة في الإسلام للدول المعاصرة، ينبع من فقه حضاري ودستوري، يؤصل للتعاقد الاجتماعي دون ملزمة الدولة الحديثة؟نقول كلا..هذا الفقه من متطلبات الرحلة العمرانية، وفريضة اصلاح المجتمع والدولة، تحت مفاهيم العدالة السياسية المطلقة، غير أن هناك فوضى تحتاج الى ضبط في تحرير سؤال العبور، وإلا فإن دعوة حزب التحرير أو السلفية الجهادية أو غيرهم، قد سَبقت في طرح الدولة الأممية، وبالنسبة لحزب التحرير فهو يعاني منذ تشكله، من حجم الفراغ بين المبدأ وبين وسائط وخطاب العبور. وقد يُحتج بالسلفية الجهادية في نموذج سوريا الجديدة الآن، وهو احتجاج قاصر، من حيث الأرضية التي قادت الى تحرير دمشق، ومن حيث أن النموذج القائم اذا اعتبرنا الفرد معبراً عنه، في شخص الرئيس (الشرع) فهو يكاد يتبرأ من كل هذا الإرث، ويعتمد كل وسائط الدولة الحديثة في رحلته الدبلوماسية مع العالم، فضلاً عن أن الحكم على النموذج ومآله مبكر جداً، راجين من الله عز وجل أن يكتب لسوريا مشروع نهضة واستقلال تنجو به من وداي الذئاب، ومن صراع الطوائف، التي نجحت كولالمبور في عبوره.نحن هنا نقارب المدخل الكبير لسؤال الخطاب الإسلامي الجديد، القائم على أصول الشريعة وفقه الحضارة، والبحث عن وجوده في تجارب الإسلاميين ذاتهم، أو رحلة التاريخ الإسلامي الكبير، اين كل ذالك من قاعدة العدل والضمير الأخلاقي لدولة عمر ابن عبد العزيز، وهل العبرة بها من خلال نموذج عصري، أو بتاريخ السلاطين الدمويين؟

mohana63

Recent Posts

السياحة والنظافة والحضارة

السياحة والنظافة والحضارة مهنا الحبيل بدت لي أزمير محطة مهمة لبدأ الرحلة التركية البرية، كان…

5 أيام ago

السياحة الفكرية في تركيا

السياحة الفكرية في تركيا مهنا الحبيل تأخرت رحلتي السياحية بين المدن التركية عشرة أعوام، حيث…

5 أيام ago

الأخلاق والعقوبة بين برنارد ماندفيل والفاروق عمر

الأخلاق والعقوبة بين برنارد ماندفيل والفاروق عمر مهنا الحبيل يستشكل البعض في توسيع رؤية المقاصد…

5 أيام ago

أبو بكر الصدّيق في عالمنا اليوم

أبو بكر الصديق في عالمنا اليوم مهنا الحبيل إن العودة للحياة الإسلامية الأولى، وخاصة الصدر…

شهر واحد ago

المرجع الأخلاقي للعالم الجديد

المرجع الأخلاقي للعالم الجديد مهنا الحبيل إن المقياس الذي يعكس بدقة، حقيقة الكوارث التي يعيشها…

شهر واحد ago

المستقبل التعليمي لأجيالنا في المهجر الغربي

المستقبل التعليمي لأجيالنا في المهجر الغربي مهنا الحبيل كانت أنباء التطورات في كل من ألمانيا…

شهر واحد ago