مهنا الحبيل
في العدوان الأخير على غزة، الذي لا يزال مستمراً في رحاه الإرهابية، هل نحتاج لسؤال النهضة؟
ما هي هذه النهضة وما علاقتها بمفهوم قوة الأمة، في ذات اقطارها وفي تجميع مسارات هذا التقدم النهضوي، دعونا أولاً نشير إلى المؤشرات الفكرية الحديثة التي تبرز على وجدان الأمة العربية وشبابها المنهك، ويبرز هنا نموذج سقوط الرؤية الهلامية ل -العثمانية الجديدة، سنترك هذا المثال جانبا ونمضي إلى السؤال، وإن كنا ندرك ارتدادات هذا السقوط على الذات الروحية في شباب العرب.
فقط أُذكّر بما عرضتُ له خلال سنوات، في التحذير من خطورة هذه القداسة وعدم موضوعيتها، وأزمتها الذاتية داخل الإنسان التركي المعاصر وجذورها التاريخية، هذه العقلانية الإسلامية الرشيدة والتفكير العربي العميق، الذي كان بالإمكان أن يقود توقعاتنا للسقف الحقيقي في تركيا الحديثة، وأمل الحفاظ على توازن الحد الأدنى بين الضمير العربي والتركي المسلم أو الشرقي بصورة عامة، قبل الانهيار الأخير، او الارتداد السياسي الذي دمج موقف أنقرة مع أنظمة رسمية أخرى في العلاقة مع تل ابيب.
ولكن مع الأسف الشديد، شارك الكثير في تضخيم اسطورة العثمانية الجديدة، وتصديرها دون أي مراجعة فكرية رشيدة، وتفاعل هذا الانهيار في موقف الشباب العربي الفكري، وفي نفسيته الإيمانية والأخلاقية، وسؤال الذات العربية والرسالة الإسلامية، وجوديا وحضارياً.
إن دورات المقاومة حين تعتمد على قدراتها الذاتية، أو حسابات ضيّقة في الأصل تخضع لمصالح جيوسياسية عليا، كوضع إيران مثلاً، يزداد الثقل عليها، خاصة حين تنكشف الأوراق، وهنا أحيّد كلياً الموقف من تاريخ سياسات المشروع الإيراني، وتقاطعاته المصلحية العليا، مع المركزية الغربية، على الجيوبولتيك الإقليمي المنظور، بغض النظر عن حجم الصراع النسبي أو الجغرافي الأيدلوجي، فهنا أُحدد كيف نفهم السقف الذي لن تتعداه طهران، ورصيدها في تحريك قواعد اللعبة عبر الأذرعة، والذي يُرسم بالمسطرة الدقيقة، لضمان الأرض التي حسم سيطرتها عليها، تحت البنية الطائفية الذاتية لها، وغزة ليست ضمن هذه الأرض، فكيف يَغيب عن العقل الاستراتيجي العربي هذه الحقيقة؟
وهذا لا علاقة له بمفهوم الإيمان المطلق، بالنصر الروحي من الله أو تحقيق وعده ، ولكن في النظر إلى دورات ومراحل الصراع وتنظيمها، في أكبر قدر ممكن بأقل خسائر اضطرارية ، هذا بالطبع لا يلغي تاريخاً من المآسي، حدثت في التاريخ القديم والجديد، من حروب الإبادة والبغي، رغم غياب أي مهدد للمعتدي، وبالتالي كفاح الشعوب في نماذج منه كان دورات متعددة، هذه الدورات حملت بعضها بعضاً بما فيها أخطاء قادة ثورات التحرر والمقاومة، كما هو نجاحها.
لكننا نخصص هنا هذا الفراغ الضخم في العدوان على غزة، سواء كان شراكة في دعم العدوان أو خذلان لشعب غزة، وهذا ما نقصد به المهمة الفارقة للنهضة في المشرق الإسلامي، وكفاح الإحيائيين القديم، الذين جمعوا مع جهدهم لنهضة فكر الأمة، وإخراجها من الضعف والتخلف، الذي لم يرضه الله لها، قوة التحام فكرة الإحياء الإسلامي في أرواحهم مع كفاح الشعوب للاستقلال، راجع إن شئت سيرة الإحيائيين من جمال الدين حتى محمد الغزالي، وتقاطعات مالك بن نبي ومالكوم إكس في ذات الاتجاه.
إن مركز الفكرة هنا هو أنه كلما نجح أي قُطر مسلم، في رحلة نهضته الذاتية فهو يشكل حجراً في قاعدة الإسناد، ثم اذا تقوّى برز في مجموعه حين يصعد تيار النهضة إلى المؤسسة السياسية، والضغط في رواقها كذراع وظهير للشعوب المحتلة، وفلسطين هي القلب اليوم.
ولقد كانت فكرة نجاح الربيع العربي تدور حول هذا المفهوم لفلسطين، غير أن الثورات المضادة نجحت من خلال الربيع العربي ذاته، في أزمة تشكيلاته الفكرية التي تسببت في ضعف صعود هذه الفكرة، واعاقة العودة لنهضة القوة في إرادة الشعوب، وعمران الأرض وفي قوة منعتها .
فالربيع اختُزل في أروقة إسطنبول الصاخبة، والتي كانت في غالبها هياكل من خطب أو مشاعر ضجيج، ضمن باقة قنوات إعلامية عديدة، لم تعقد ورشاً للنقد الذاتي، ولم تصنع مشاريع مستقلة، تعيد الفهم الجيوسياسي للحصار الدولي والمحلي للمشرق العربي، وكيف تصنع معركة العبور، وأين هو الطريق في التفاعل من داخل الأرض العربية، أو في المهجر لمرحلة انتقالية لفكر الشعوب وطلائعها الشبابية .
كيف تخرج الأمة العربية من المستويات الدامية المضادة، إلى الصراع السياسي التدافعي، وخلق بيئة نهضة فيه بعد أن تتقدم فكرياً وتخترق أزمة الخطاب الرغبوي الصاخب ، وسواءً كان ذلك التحول لدعم الرؤية الاستراتيجية للمقاومة، وشرح أبعادها التي لا يمكن أن تفقه الا بدلالات الوعي والمعرفة، فهنا الأمر ليس فتوى محلية وإنما رؤية مركزية تُسقط حساباتها على هذا الشعب المغدور، وتحرير الرأي فيه واجب بل فريضة لتقدير هذا الخطر، وهو خارج تماماً عن قواعد الاشتباك المباشرة المحدود الرؤية، بسبب ظروف الالتحام ونيران الضغط الشرس.
أما صورة الدعم الأخرى فهو، حين تنجح مسيرة نهضة تفاعلت مع اقليمها وشكلت ساعداً للدعم، فتُقدّر إمكانية الدعم بسقف المعركة والمآل، حتى مع وجود تضحيات كبيرة، لكنها تضحيات تضبط بميزان الصراع، الذي كان يدفع به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل سيرته ، وبفهم نواميس الكون التي تنقلك من قدر الله إلى قدره الآخر.
وحيث انكشف الآن مجدداً واقع الدول العربية وغيرها ، من حيث أثر الاستبداد والفساد وعقيدة المصالح البرغماتية المتطرفة، فهل السؤال هو في مواصلة خطاب العاطفة ودورة ملاعنة جديدة، أم العودة لمهمة خلق جيل النهضة الجديد، الذي لا يلزم منه أن يكون في تيار محدد، ولكن في المفهوم العام لصناعة وعي الشعوب والشباب بالذات ينجز معركة العبور.