سجدة دافئة في مونتريال
مهنا الحبيل
كان الثلج ينهمر بكثافة على مركز المدينة في مونتريال، فدوماً يمازحها الأصدقاء والصديقات، بنجاتهم من كثبان الثلج وخاصة حين قرر بعض الصديقات الانتقال إلى فانكوفر أو تورونتو، لكن لا بأس فالعبور من مربع مجمع جامعة ككورديون، فيه حيوية جميلة وما أن تدخل المرفق حتى تسكن للدفء، لكن ليلي تغضب من موجات الكآبة المصحوبة برعشة قلب تعاودها، تسرق نظرة سريعة إلى مسجد المدينة، يُذكّرها بتاريخ شخصي مختلف تماماً اليوم، فتقتلع ذاتها من تلك الذاكرة، وبالذات من تاريخها في الحجاب.
هذه المرة أطرقت ليلى في التفكير، لماذا لا تقبل الدعوة وتسهر ليلة حمراء مع رفيقاتها الأخريات، فهي اليوم متحررة تهاجم الدين كما يفلعون، تتحفظ على بعض عباراتهن لكن الفكرة واحدة، تعاد القصة في جلسات السوشل ميديا، حكاية النظام المستبد الذي يعسف بذات الإنسان وكل حقوقه، وكان يستخدم في عهدها كتلة من مشايخ الدين المستبدين، لكنه لم يعد يفعل ذلك اليوم، وأصبح طاقمه مطابقاً لمفاهيم القيم المادية، ومنفتح في مهرجاناته على مشروع عرض الجسد المفتوح، لكي يُثبت تحرر المرأة!
أعادت ليلي أيضاً مراجعة سجل بعض رفيقاتها، وكان هذا السجل هو المانع لديها من التقدم إلى الليالي الحمراء، تساءلت ليلي في هذا التحول في عرض الجسد أو تناول الخمور، او التراقص بين أحضان العشيق الموسمي، للشابات اللائي قدمنَ من ذات الوطن المعتقل، باسم الحقوق والحرية السياسية، ماذا تبقى منها، بل ماذا تبقى منهن؟
لم تقتنع بعلاقة الفكرة الأولى ثم نهاية مسرح الرحلة، لتكون الأنثى الشرقية الجديدة، مجرد رقم استعراضي يُبشر بالمثلية والإلحاد، حتى تُعلَن الشابة المهاجرة الجديدة امرأةً تقدمية.
تغيرت الروح المعلنة رويداً، بقي من يكافح في سبيل الإنقاذ لشعبه، لكن تسربت كثيرات إلى مشاريع الحياة الشخصية، عملٌ مجهد ثم التسلية الجنسية في عطلة الأسبوع، ولا بأس من تناول قضية سياسية، تُختم بسب الدين وأنه هو من يخنق المرأة، خاصة أن الواعظ الذي تجسد في شخصية معارض (وطني)، يُعطي وجبات ممتعة لنزوة الضحك للطعن في القرآن، وهو يشترط على أي مفهوم فكري للإنقاذ، أن يُفاصَل الإسلام في ضمير شعبه وهويته (المتخلفة)، حتى العروبة لم يعد لها قيمة، فهذا المواطن أصلاً جندر لا تعريف جنساني له، هكذا يعظ المعارض التقدمي مريديه.
لم تعد ليلي ترتاح للواعظ الملحد المتطرف، بسبب خديعة كبيرة تعرضت لها إحدى رفيقاتها على يديه، فسقطت بين نزوته وموعظته في الإلحاد، فكَبُرت عندها الصورة، وحضر سؤل القلق وطُرح مفهوم الحرية من جديد، ما هو وأين هو؟
بين نموذج النظام القمعي المستبد في الوطن، وبين العربيد المعارض الحقير، الذي ورّط صديقتها، والذي تلتقطه قوى غريبة، ويتلقى دعم ويُسند من منظمات نوعية، توقفت ليلى في منتصف الطريق، كانت هذه الأفكار تعصف بحديث الوجدان الصاخب لديها، وكانت تتناوب مع مواسم الكآبة، لكنها كانت تأنس بصفية.
صفية شابة أندونيسية مسلمة متدفقة المشاعر والحنان، تعرفت عليها مؤخرا، فقد قدمت للدراسة في جامعة كندية، في مونتريال، حجاب صفية وروحها الدينية حاضرة، ومع ذلك متدفقة البسمة مشرقة في علاقاتها، تشعر ليلى عند كل لقاء، وكأنها تريد أن تُلقي بنفسها في حضنها المعنوي، حتى تكون بين يدي هذه الروح الطاهرة، وما أقل نماذجها في عسف الغربة وزمن المحنة.
عادت ليلى لمحادثة سابقة مع صديق إسلامي معارض، أشار لها باسم نوح لسؤلها الفكري، نوح من رفاق عامر الغريب، احتجب نوح عن أسواق الحضور في السوشل ميديا، وركز على صناعة ثقافته، كره تزوير النظام للدين، وخنقه للمصلحين، فقرر الهجرة بصمت، واتخذ له مسار خاص في خدمة الشعب، وبدأ في تأسيس مفاهيمه الفكرية، ونظم شبكات علاقاته، وله رفاق مسجد خُلّص، لكن أيضا نوح ورفاقه، سعوا للابتعاد عن بعض الكتل المصلحية في بعض المراكز الإسلامية.
كان نوح صامتاً لكنه كان يقرأ لوحة الفساد الأخرى في هذا المركز الإسلامي، أو ذلك الواعظ الديني البزنس، فيستعيد صورة الدين المسروق في وطنه، ففتنة المصلحة والمال لا جغرافيا لها، وهناك من يتاجر بها في الغرب والشرق، غير أن رفاق عامر ادركوا قصة الأخلاق في الإسلام، فثبت لديهم هذا المجهر وعبروا به إلى الحياة، حياة القلوب وحياة الناس.
لم تكن ليلى قد أجرت الاتصال بعد، أخذت الرقم من الصديق المشترك وهو حامد، حدثته عن المقطع الصوتي الذي نشره لنوح، في أحد القرويات المشتركة، حول مفهوم المرأة والحقوق، اختلف عن السائد الديني، ولا يتفق مع الهجوم الإلحادي، الذي يُشعل في سمر الرفاق والرفيقات الملحدات كل مرة، ثم طلبت المزيد، فبعث لها حامد مدونة نوح الشخصية، فكانت الحيرة أكبر.
قلبت النظر في الجهاز والوقت متأخر في فرع تيم هورتنز، الذي يفتح طوال الوقت، لكن حضورها آنس الفتاة التي تُناوب ليلتها في المقهى، في ظل حضور بعض الهوملس، وهي مهاجرة ايضاً فكان كل غريب للغريب نسيبُ، يستأنس كل منهن بحضور الأخرى.
الوقت متأخر فهل ممكن أن اتصل بنوح لأطرح سؤال الحياة الكبير، هل هذا وقته..
تساءلت ليلي؟
فتحت بطاقة نوح في سجل المضافين في الواتس، ثم رأته متصلاً، (الهد فون) السماعة موجودة، والمقهى قليل الزبائن، فما عليَّ أن أسأل إذن (قالت ليلى)..
عادةً تبدأ التحية بمرحباً، أو أهلين، إذ أن الرفاق الجدد المهاجرين، يرون مقولة السلام عليكم عبارة تخلّف، لكنها قالت الأمر مختلف، يجب أن أبداً بما يناسب نوح، ثم ضحكت لكن دمعت عينيها أيضاً، هل هي روح نوح أم روحنا معاً، هل هو مجتمع نوح أم مجتمعنا معاً، هل تلك الدُور وتلك الأروح فيها آباء نوح وأمهاته، أم آباؤنا وامهاتنا معاً، ألستُ ليلى بنت تلك الديار الشرقية الدافئة؟
انطلقت بالسلام وبعثت الرسالة، وهي تسعى لكبح طوفان المشاعر الذي يجتاح وجدانها، وكأنهُ لحظة انتفاضة لحصيلة الرحلة الأخيرة في الغربة.
لكن نوح رد على الفور ..
وعليكم السلام
قالت له أنا ليلى أخذتُ رقمك من حامد واعتَذَرَت عن تأخر الوقت..
رحب بها نوح وقال نعم حامد اخبرني، لا مشكلة أبداً فكنتُ ساهراً لبعض القراءات، تفضلي بالاتصال متى ما أحببتي..
بالفعل بدات حكاية لم تخطط لها ليلى، اندفعت ثورة الأسئلة عن الوجود، الدين، الحياة الأخلاق، العدالة والظلم، المرأة المهمشة والمرأة المسحوقة، والمرأة الإنسان، كانت تتحدث بتوالي وتعبير عاطفي منفعل، توقفت بُرهة ..
اسمح لي نوح أنا أكثرت عليك اسئلتي..
قال لها لا..لا
لا تتوقفي واصلي..
كانت تشعر أن هناك حالة ارتياح تتمكن منها، في بعثرة أسئلة الشك الكبرى، وخاصة بعد أن قفز لديها مصير الرفيقات وخبث بعض الرفاق، وصور الإنسان الآخر الذي كان يُبشّر به، في أول قرار التمرد وتُستقطب به الفتيات، فاندفق ذلك التاريخ ونوح يستمع حتى ملأت كأس السؤال.
لاطف نوح ليلى مخففاً عليها، ضريبة هذا الحمل الكبير، ابتدأ بحكاية أدبية ثم مقولة لفيلسوف غربي شهير، حول حتمية الخالق، ثم عبر الى سؤال الأخلاق في العالم، بعد أن كشف مسرح الوجود، والفرق بين الحتمية الوجودية المدللة في هذه الدنيا، التي يستشعرها الإنسان في كل تفصيل في جسده، وفي العالم من حوله، وبين القصة التي نُحتت عبر الرأسمالية الحديثة، وأعلنت الحتمية التاريخية التي ينتهي لها العالم بزعمهم.
فبقي سؤال الروح المعجر قائماً..
تتالى شرح نوح عن هذه الروح ودلالاتها، ويقينية الاستدلال بها وبقوته، حتى شعرت ليلي أنها ترتوي وكأن السُقيا تتمكن من قلبها الجاف فتُحيي مشاعرها من جديد، توقف العرض وقال نوح:
ليلي يقول لي الرفيق عامر دوماً..
إنك إن تُبصر الحقيقة فلا تغفل عن رَيّها..
قلتُ وكيف أفعل؟ قال بالصلاة..
نحن لا نخدع الناس بالعاطفة، ولكن نحيي يقين عقولهم بحراك قلوبهم، الأدلة جلية في قبلتك لكنها ستبعد عنك، يوم أن تنحرف بوصلتك.
شعرت ليلة بصاعق كهربائي يضرب جسدها، استنكرت هذه القشعريرة، ولكنها أنِست بها، كفكفت الدمع وشكرت نوح وأغلقت الهاتف..
انتبهت إلى أن الفجر قد طلع، أي أن الحوار استغرق الليل كله، أخذت معطفها، وخرجت من المقهى، وحيّت الفتاة التي كانت ترقب حوار ليلي وتفاعلها، لكن دون أن تعرف الحكاية..
في منعطف التقاطع الذي يتربع في قلب مونتريال، أجالت ليلى النظر، مرةً أُخرى تبحث عن البوصلة، فوجدت لافتة مسجد المدينة، تقدمت له بخطى مرتبكة، وهي تستذكر أن وقت الفجر قد لا يفتح فيه مصلى النساء، أو لا يكون مهيئاً لندرة من يحضرن، لكنها واصلت خطواتها، ثم وقفت عند الباب، أدركها احد الشباب من صحبة المسجد، فنادى عليها:
Sistar sistar أختي اختي ..
هذا هو مدخل الأخوات تفضلي، دخلت وتوضأت، ثم وقفت، لم تقام الصلاة بعد، لكنها في شوق للقاء الأرواح كبّرت، فتداخل الدمع مع الفاتحة، ثم هوت للسجود فإذا بتلك الطمأنينة تحتضنها، فألقت ليلى روحها بين يديها، فأشرق الإيمان بالله الحبيب المحب، فاختلط النشيج بالتسبيح، وغلب فرح الدموع قلعة الكآبة في سجدة دافئة، وليلي تُسبح وفي نفسِها ضوء اليقين، نورٌ إني آره.