سياحة فكرية في الرحلة الأوربية
مهنا الحبيل
بعثت زيارتي لبروكسل في شهر يناير الماضي، استئنافاً للبحث القديم في رحلة علاقة المسلمين بالغرب والبحث عن الطريق الثالث، بعد صعود اليمين المتطرف وتطرف اليسار أيضاً، كان لا بد من تحديد مركز لرؤية فكرية، للانطلاق الى المستقبل الجديد لمسلمي المهجر كمواطنين ومقيمين، هذه الرؤية انفجر أمامها سؤال كبير.
وهو هل التغير هو مرحلة سياسية مؤقتة، أم انقلاب اجتماعي تاريخي في الغرب، تنبعث فيه روح الانقسامات اليمينية في الذات الغربية نفسها، واقاليم دولها.
وهل هي ذات علاقة بتاريخ الغرب الديني الاجتماعي، وتاريخ الإبادة المتبادلة في أممه، والتي حرص مشروع الإتحاد الاوربي على تجاوزها كليا، هل نجح إلى مالا نهاية؟
هذ الجدل برز لدي في زيارتي لمتحف واترلو، ثم مقر البرلمان الأوربي في مجمع الإتحاد الأوربي في بروكسل، فهذا القلق القومي الغربي على ذاته، يعود أيضاً في روح أخرى مجتمعية لديه، في مخاوف متحدة منحازة وغير منصفة، تجاه المسلمين، اللذين تتدحرج عليهم كل دورة قرارات لتقليص مساحتهم، والالتفاف على حقوقهم الدستورية، وبالطبع ليست مهمتنا هنا جمع الأدلة على الانحياز، ولا التطرف ضد المسلمين، فلن تكفيه موسوعة ضخمة.
لكن طبيعة القلم وروح التفكير لديه، هو العبور الى مساحات الفراغ في مشاريع المسلمين، وقبل ذالك في نوعية التفكير الإستراتيجي لهذا المستقبل، فإن كان هناك قرار آخر تجده مكرساُ بين مسلمي المهجر، فهو أنهُ لا يوجد عزم للهجرة العكسية ولا مساحة احتواء قائمة لهم في بلدان الشرق، وأزماته القائمة أو صراعاته، وحتّى لو عادت بعض الأسر المسلمة في الغرب، فهي لا تكاد تمثل 5% من المجموع العام.
فكيف سيُخطط لمستقبل مسلمي الدول الغربية، في أوروبا وفي أمريكا الشمالية، وكيف سيواجه ويتعامل مع الانقلاب الاجتماعي، بروح المواطنة في داخل الدولة الغربية ذاتها وليس منابذتها، فهي في النهاية تنظيمات دستورية وقانونية، ومدافعة سياسية في قضايا الشؤون الداخلية للدول الغربية، وهي مرجع المواطن المسلم في الغرب، في قوانين الإقامة والمواطنة معاً، فكان من المهم أن أصل لمدخل لهذا المأزق.
آملاً أن يوفق المجتمع المسلم هنا، في وضع تصورات لمستقبل حقوقي وتفاعلي أكثر أمناً وحفاظاً على قيم أجيالنا في المهجر، هذه هي القاعدة الأساس، وهي البحث عن أرضية تشريعية وسياسية، ينتزعها مسلمي الغرب، لتأمين حياتهم كأقليات، كما فعلت بعض الأقليات الأخرى، لكي تُرصّف سُبل الحياة والتنشئة لأجيالهم.
وفي ذات الوقت التحول إلى مجتمع يوصل قيمه إلى الوطن الجديد، عملياً وسلوكياً لا وعظياً، فيدرك الآخرين بأن الإسلام مرجع أخلاقي رفيع للمجتمعات والتعايش، فتنطلق مدافعتهم السياسية والمجتمعية بثقة وبانضباط يتفق مع احترام الوطن الجديد، ومجتمعاته، ويَفهم رسالتهم ويَفهم أيضاً تطرف بعضهم، والتوجهات الخطرة التي تنبعث بقوة، في كل مساحات الإعلام وتصريحات السياسة.
وقولنا هنا مدافعة نعني به طبيعة الواقع الاجتماعي السياسي في الغرب، وسنن الله في التدافع المدني بين الأمم، لبلاغ رسالتهم وقيمهم، وهي مهمة صعبة جداً لمسلمي الغرب، والآراء التي وصلتني خلال الرحلة كلها تشير الى سلسلة التضييقيات الممنهجة، وخاصةً ما بعد ذبح غزة حيث يدفع المجتمع اليميني في الغرب، للثأر من الضمير المسلم الذي ساند الشعب الذي تعرض لإبادة تاريخية، بسبب أن الميزان (الإنسانوي التقدمي) في الأصل، مختلفٌ تماماً بين أمم الجنوب وخاصة الشرق المسلم، وبين الأمم الغربية.
غير أن هناك سؤال مهم جداً انطلق في متن الرحلة، وهو ما هو مستقبل صعود هذا اليمين المتطرف على الغرب نفسه، ما الذي يعنيه انفجار مشروع ترمب في وجه حلفائه من قلب هذه الأمم، وإعلان رئيس الحكومة المستقيل في كندا جاستن ترودو، أن تكثيف ترمب حديثه واستهدافه للاقتصاد الكندي، هي مقدمة لإنهاك كندا لدمجها فعليا، وهو تصريح عميق الدلالة على أزمة أوتاوا، التي يُشك فيها في موقف المحافظين ذاتهم، في التعامل مع صلف ترمب، وهل سيكرس الحزب المحافظ الصمود المستقل أمام حليفه ترمب!
لقد كان المشهد الآخر في الإتحاد الأوربي معاكساً، لمشهد معركة واترلو، كمشروع نموذج وُلدت به أوروبا بعد سلسلة حروب، غير أن تلك القيم التي سُجلت صوتيا، لأجيال الإتحاد الأوربي، في تكريس التعدد والشراكة، وحقوق المجتمعات الكادحة، وحرية المظاهرات والاحتجاج السياسي، وحقوق المرأة والعمال والفلاحين، التي انتهت بتأمينها تحت رعاية قبة البرلمان الأوربي المتحد.
هذه القبة ذاتها اجتاحها اليمين المتطرف، الذي لديه صراعات مع الإتحاد الأوربي، ولديه مسطرة قوانين تعيد تقييم المواطنة، وتفرز القادمين من الجنوب، والسؤال هنا ليس فقط في تحديات المواطنين (الملونين) في أمريكا الشمالية وفي أوروبا، ولكن في الصراع بين الذات الغربية، وذاكرتها المثقلة بالدماء.
للحديث بقية
السياحة والنظافة والحضارة مهنا الحبيل بدت لي أزمير محطة مهمة لبدأ الرحلة التركية البرية، كان…
السياحة الفكرية في تركيا مهنا الحبيل تأخرت رحلتي السياحية بين المدن التركية عشرة أعوام، حيث…
الأخلاق والعقوبة بين برنارد ماندفيل والفاروق عمر مهنا الحبيل يستشكل البعض في توسيع رؤية المقاصد…
سؤال الدولة الإسلامي والاستئناف الفكري مهنا الحبيل وقفنا في إعادة تحرير النموذج الماليزي على سؤال…
أبو بكر الصديق في عالمنا اليوم مهنا الحبيل إن العودة للحياة الإسلامية الأولى، وخاصة الصدر…
المرجع الأخلاقي للعالم الجديد مهنا الحبيل إن المقياس الذي يعكس بدقة، حقيقة الكوارث التي يعيشها…