Categories: مواد فكرية

سيداتُ القمر..الإبداع والقسوة

مهنا الحبيل

13/9/2022

كان من الممكن أن تَسقط رواية جوخة الحارثي، في ربع مسافتها الأولى وهي تربط القارئ المنطلق مع قصة ميّا الرومانسية، رغم أن ركن الرواية هنا كان هامشياً في سياق رحلة وجوه أبطال القصة، والبلدة العُمانية ونظامها الاجتماعي، لكن ذلك لم يحصل، فانعطافات الرواية المتوالية ظلت تشد القارئ، إلى أفكارها المتعددة كما شخصياتها، وحتى الراوي المزدوج في ضمير الحكاية، بين القاص المحايد المجهول وبين ضمير عبد الله ابن التاجر سليمان، كان بذاته مدخل قد تفلت منه القصة في أي وقت، فيُلقي بها القارئ على منضدته، لكن ما جرى مع سيدات القمر، كان مختلف تماماً.

       وهل أسرفت جوخة في التحشيد النقدي الاجتماعي القاسي في مسرح الرواية، بغض النظر عن جمالها وجاذبية وقعها على القارئ وتعلقها به، وما المقصود بالإسراف، هل هو تراكم الصورة السلبية عن التاريخ الاجتماعي أو الزوايا غير المحكية في تاريخ الريف الخليجي ولا أقول العُماني فقط، هنا زاوية تستحق النظر، فسردية الأحداث تعتمد على حقائق، وليس نسجاً إبداعياً معزولاً.

       وشخصياً لا تعنيني اعتمادات المنصات الدولية، ليس رفضاً لرابطتنا بالفكر الإنساني، وأننا نُشكّل جزءً من هذه القرية الكونية، من تمازج الذات والآخرين والطبيعة من حولنا، وقبل ذلك في سر فطرة الله للأشياء والناس من حولنا، وفي تصادمنا وفي تراحمنا وفي تضادنا، وفي المكنون النفسي المختلف عن الظواهر السلوكية، أو التعبيرات اللسانية التي يظهر بها ذلك الإنسان في مجتمع الريف، ولا أحسب، أن قلب المدن يختلف كثيراً عن الريف في ساحل الخليج العربي، وإن بقيت لكل ناحية سياقات مختلفة ومنظومة متحدة.

       هنا تحديداً كانت ريشة جوخة ترسم لوحة مسرحية مذهلة، تتجاوز بها ظواهر الذوات إلى تحشيدات النفس، وسردياتها المختلفة عن المعلن، أو عن المنطوق او عن المهموس، وهي واحدة من الظواهر الصعبة بين الذات وشركاء المجتمع، أين أنا كعضو في هذا البيت أو الأسرة أو المجتمع، من البقية؟ وماذا يُمثلون لي وماذا أمثل لهم!.

كلوحة أدبية لا يمكن لي ان أُعطي وصفاً لهذا النحت، ثم نسيجه في الرواية إلا ابداعاً، أما كمراجعة فكرية، فقد أتوقف في دقة أن يعكس مسرح صرخات النفس الاحتجاجية، أو ضيقها الشخصي أو مواقفها العارضة في الرواية مع شركاء الحياة، هذا الجفاف او المفاصلة القاسية.

       الغريب أن عبد الله ابن سليمان التاجر كانت له رواية مختلفة مع ميّا، ومع البعد الإنساني الآخر الرافض للعبودية أو التطفيف، المنطلق مع إنسانية مختلفة، رغم صلف والده ومشاهد التوحش في تربيته، لكن الرواية أصرّت على وضعه في قفص روح الطفل المأزوم، لا المقاوم الضحية الذي يتوقف عند رسائل التصحيح الإنسانية في المشاعر،  ولكن سيدات القمر رفضت المآل الآخر الذي تتحد فيه مشاعر الحب الصادقة من عبد الله، برفيقة دربه ميّا، رغم أن الحب بعد الزواج يتكرر في حشد من حياتنا الاجتماعية في الخليج.

       وهو ما يحصل بالفعل بين الزوجين الموفقين،  رغم لحظة التعارف الباهتة، ورغم خسارة اللوحة الرومانسية البسيطة،  التي تفتقدها عادةً أحلامنا الأولى مع فتاة الحارة أو الجيران، أو حتى ملتقى الأعين الصامتة، غير أن الرواية أصرت أن تُبقي عبد الله في سياق الأسر الراديكالي ومشاعر الصدمة، والسخرية من بحثه عن الطريق الناجح لقلب ميّا، ربما كان المخيال المتشكل في ثورة الذات الروائية، وفي صعود الغضب الأنثوي الذي يبرز بوضوح في القصة، كان له دورٌ في تجسيد المسرح، ورفض أي فرصة للتأهيل، حتى لو كانت ضمن حقائق ثابتة، ليس في المخيال العماني والخليجي ولكنها في سيرة روح إنسان الساحل.

       إذن كان لا بد من طرح تساؤل الثورة الأنثوية في الرواية وهيمنتها، وهل هذه الثورة مبررة في مسرح الحكاية، من خلال حجم التضحيات التي تقدمها المرأة لأجل الأهل والزوج غير الكفوء، رغم الفارق الكبير بين أزواج سيدات القمر.

       كانت نجيّة هنا الصورة المزدوجة للمرأة ذات الحلم الرومانسي، لكن غير معروف لماذا اتخذت عزّان عشيقاً دون أن تتحول فرصة ثروتها لاختيار زوجٍ كفوء، هل كان المجتمع في قسوته يقطع عنها فرص هذا الحلم؟

 في ذات الوقت كانت لوحة وفائها العظيم لأخيها (التوحدي) وهمتها الشجاعة في إدارة ثروتها، وروح المرأة المعطاة المتحركة وسط المجتمع الرافض لمساحتها المشروعة، فصل مهم في حكايات المرأة في الخليج العربي، ومن الصعب جداً أن استدعي كامل الدلالات لرحلة سيدات القمر، فضلاً عن أن اُعيد رسم رسائل القصة أو فلسفتها المستترة، في قراءتنا المستقلة لها، حين نعتمد غياب المؤلف.

       وهو تغييبٌ صعب حين نسقط الرواية على الجغرافيا الاجتماعية للخليج العربي عموماً، وهنا خصوصية عُمانية، حين دمجت جوخة سردياتها بإبداع وتداخل اجتماعي رحلة عمان السياسية، كيف حضرت المقاومة العمانية، وثورة ظفار اليسارية، وكيف تغير الموقف المبدئي من الثورة عند مشايخ الدين وشخصيات الكفاح ضد الإنجليز، ورفضهم لثورة ظفار لأنها في معسكر اليسار القومي، فسجلته لنا جوخة، ووقفنا عنده دون أن تنقطع سرديتها المذهلة فينا.

       أين موقع الإسلام الذي يوحد المجتمع العماني في الرواية،  وخاصة من خلال الجدل الذي ثار في عُمان حول القصة، وشرعية حكاياتها الصعبة على المجتمع، لا بد لي هنا من أن أؤكد أن للرواق الأدبي مساحته ولا يمكن لك أن تحاكم نصاً أدبياً روائياً أو سردياً، في حلقات علم فقهية، وما أقصدهُ هنا يختلف عن مساحة التجديف المباشر ضد الدين، بغض النظر عن الفرق بن إدانة العمل، والسعي لتعقب كاتبه بما لا يجوز أصلا في ذات المبدأ الإسلامي، وهو المبدأ الذي يحضر في مشهد العبودية الثائر في الرواية.

mohana63

Recent Posts

العقل المعرفي..الفارق الفلسفي الإسلامي

العقل المعرفي.. الفارق الفلسفي الإسلامي مهنا الحبيل في رحلة الجدل الفلسفي المعاصر، تختط قواعد المقارنة…

4 أيام ago

أفق السلام الكردي_التركي

أفق السلام الكردي-التركي مهنا الحبيل أياً كانت القراءات المختلفة، لموقف دولة بهتشلي القائد القومي التركي…

4 أيام ago

فرض الديمقراطية الدموية

فرض الديمقراطية الدموية مهنا الحبيل يفكك روسو التحديات التي تواجهها السلطة الاشتراعية، وخاصة كونها القوة…

4 أيام ago

أصحاب الظرف الخاص في مجتمعاتنا العربية

أصحاب الظرف الخاص في مجتمعاتنا العربية مهنا الحبيل هل توقفت يوماً عند ذلك الطفل، الذي…

4 أيام ago

رسالة للزواج الجديد

رسالة للزواج الجديد مهنا الحبيل يبدو عنوان البرنامج الوقائي، لوازرة التنمية الاجتماعية في قطر، مهم…

4 أيام ago

الديمقراطية التي تحمي السيادة

الديمقراطية التي تحمي السيادة مهنا الحبيل يعرضُ روسو لطبائع الشعوب وما يُلائمهم من حكومات، كسلطة…

4 أيام ago