ضمير الغرب المسيحي وجسورنا المقطوعة

مهنا الحبيل

22/5/2022

رغم كل ظواهر الإلحاد والعلمانية المطلقة، إلا أن الضمير المسيحي الديني له حضور عميق في الغرب لا يمكن تجاهله، وهناك تصور خاطئ في فكر بعض المسلمين، كما أن هناك اضطراب سياسي في الغرب حول علاقة هذا المفهوم، بين علمانية الدولة وعلمانية المجتمع، فالتفسير لصورة هذه العلمانية مختلف للغاية. 

 فهو في حالة الدولة يُقدم ظاهرياً على أنه منعزلٌ كلياً، عن أي شأنٍ أو خطابٍ أو تقاطع ديني، لكنه في الحقيقة مشدودٌ ضمنياً للعالم المسيحي الغربي، وتمثيل إنسانه، ولذلك فقيمة الكنيسة والذات المسيحية، لا تقارن بأي دينٍ آخر، والنفوذ اليهودي على العالم الغربي، تضخم سياسياً ولم يكن له ذلك الحظ سابقاً، وحتى خطاب المراجع المسيحية وإعلان التحالف بين العهد القديم والجديد، قام على أساس سياسي براغماتي، وليس وفقاً لعلاقة مسيحيي ويهود الغرب، ذات العمق الديني الدموي. 

  أما المجتمع فهناك حياة علمانية بالمطلق، يؤسس زمن عمرها على تحقيق أكبر متعة شخصية، ولا قيمة للروح والتدين في حياتها، لا كمرجع أخلاقي ولا استشعار يدفع لمراعاة الخالق، وهي حالات رغم تطور صورها، إلا أنها تعيش منعطفات انكسار متجددة، تنتقل فيها من دورٍ تائه إلى دورٍ أسوء، فالعلاقات الجنسية المفتوحة، تتحول اليوم إلى علاقات مثلية مضطربة، وإلى صراع محموم حول ذات الإنسان وهويته الجنسانية، والغرق في مفهوم جمهورية الفرد وعالمها الكلي الانفصالي. 

 ومن صور هذا الإغراق كثافة استبدال الطفولة بالرفيق الحيواني الأبدي للأسرة، المتمثلة بالفرد رجل أو امرأة مع الكلب أو إضافته إلى بقية الأسرة، لكن اليوم تنتشر صورة الأسرة الثنائية بين الكلب والفرد، كمآل شبه نهائي، بسبب إسقاط البعد الروحي الذي تتشكل منه رابطة الأقارب، وتنظم علاقاتها. 

  كل ذلك لم يمنع من تمسك اليمين الاجتماعي بمفاهيمه، وحضور فرصه في عالم السياسة، باسم الأحزاب المحافظة، هذا اليمين له مرجعية مسيحية، وفي بعض تياراته تتصاعد النزعة المتطرفة، والعنف الشعوري والسلوكي ضد اللاجئين والمسلمين خصوصاً، لكن هذا التطرف لا يشمل كل البيئات المسيحية، وهي هنا في غاية الأهمية لثقافة التعامل مع المجتمع الغربي وشقه المسيحي. 

 إن الخطأ الذي تعاظم عبر عقود، هو القطيعة مع هذا المجتمع، والتعامل معه بصفته مرجعاً عقائدياً في الصراع، وهذا الافتراق الديني بين المسلمين والمركز المسيحي الغربي، لا يجوز أن يُسحب على كل العلاقات والمصالح المشتركة، فهناك تعدديات ضخمة في الحالة المسيحية وكنائسها، وليست كلها تندرج تحت الثقافة أو السياسة المركزية للفاتيكان، فضلاً عن التباين بين الأرثوذكس وبين الكاثوليك والكنائس البروتستانتية الإنجليكية، وموقف الراهب الشخصي لكل كنيسة. 

  فهناك مجتمعات محافظة من أسر أو أفراد، يتبعون لهذه الكنيسة أو تلك، يشعرون بأثر الصلف المادي الحداثي عليهم، ويستفزهم حجم الضغط والسيولة المطلقة، التي تُصّب على الأسرة الفطرية، والهجوم الممنهج على الأطفال وتفجير اضطرابهم المبكر، حول الهوية الجنسانية، أو استفزاز غريزتهم في سن مبكرة، وإطلاق العلاقة الجنسية بين الفتيان والفتيات. 

  وهناك بيئات محسوبة على اليمين الاجتماعي، تؤمن بأثر الروح والإيمان بالخالق في تنظيم مشاعر الإنسان وهدأة باله، وهناك حشدٌ من البرامج الإذاعية والمتلفزة، ومؤسسات ضخمة تعمل في هذا الإطار، بعض هذه المؤسسات تستغل هذه الحاجات النفسية، لخلق جدار عزل أو تصورات سلبية عن المسلمين. 

  لكن هذا اليمين المسيحي أو المجتمع الغربي المحافظ، بكل مستوياته تثبت التجارب أن فيه مساحات ضخمة، ممكن أن تُخلق معها جسور أخلاقية وثقافية بين المسلمين، ولكن عزلة المسلمين عنهم، ساهم في زيادة رقعة التطرف في بعض بيئاتهم، كما أن الصراع السياسي بين اللبرالية الاجتماعية وبين اللبرالية المحافظة، أو بين اليسار واليمين في الغرب، صوّر المهاجرين المسلمين على أنهم مخزن ذخيرة ضدهم، تستخدمها الأحزاب اليسارية أو اللبرالية المتطرفة، التي تواجه المجتمع اليميني المحافظ. 

  هذه الصورة أضرت كثيراً بمصالح المسلمين وحقوقهم، ونعتبرها اليوم أحد وسائط التهديد الإستراتيجي للمهجر الغربي المسلم، ولذلك أمامنا في كندا وغيرها، مهمة عاجلة لمعالجة تلك القطيعة والعودة إلى المعادلة القرآنية، في التحالف الإنساني المطلق، وتجذير قاعدة مفاهيم للمشتركات الأخلاقية، بين المسلمين والمسيحيين، وتنظيم الندوات المتعددة لصناعة تلك الجسور المقطوعة، قبل أن نصل إلى الطريق المسدود في المواطنة الجديدة.