علم الاجتماع الاسلامي والعالم الجديد

علم الاجتماع الإسلامي والعالم الجديد 

مهنا الحبيل

جان جاك روسو فيلسوف التشريع الفرنسي الأبرز، الذي ساهمت نظرياته وأقرانه في تغيير خارطة أوروبا الفكرية، والانتقال إلى مدار مختلف، ورثت فلسفته في قصة الدولة الحديثة أرشيفاً لما تبقى من الدولة الرومانية الوثنية، والإمبراطوريات المسيحية الروحية، انطلق روسو من خلالها إلى البحث عن خارطة جديدة، يعبر فيها القانون الاجتماعي لصالح الدولة والإنسان إلى فضاء عدالة وحقوق أكبر، وسعى في رحلة إميل إلى قرنِ النظام بالتنشئة الأخلاقية بحسب مفاهيمه.       هذا النموذج من أخلاقية الفرد، وصلاحية الدولة العدلية الحقوقية، هو هدف كوني تسعى إليه أمم الأرض كلها، غير أن الفرق قائم في تحديد مآل الأفكار من خلال المرجع الأخلاقي نفسه، ومن خلال فهم رسالة الإنسان في تتبعه الأول، وهذه كانت أحد أهداف الرحلة في فلسفته، للوصول الى منطلق جديد في علم الاجتماع الإسلامي، يصل المحاور الأخلاقية بين البشر، في مفهوم المقصد الأعلى، وتحقيق معادلة الاستخلاف في الأرض، عبر وسائط العمران، معادلة إسلامية صرفة، وإن كانت الحضارات ترث من بعضها البعض. غير أن هذه المعادلة عُطلت تعطيلاً شنيعاً، في تاريخ المسلمين، ثم أسقطت في كثير من مدونات فقه التراث، إما بتدخل المستبد، الذي أثّر على الحياة الفكرية، أو بفساد بعض البيئات العلمية، التي انحط خطابها، عن منهج النبي صلى الله عليه، فكانت مهمة التجديد الشرعي، الذي نص عليه هو نفسه صلى الله عليه وسلم مسلك المصلحين الإسلاميين، وفريضة الأمس واليوم الغائبة، ونجد ذالك جلياً ونحن نستتبع الحكمة المسقطة بين المسلمين.       وفي قصة روسو هناك فطرة وجدها ركيزة لفلسفته وتشريعه، لكنه – ومع إيمانه بارتباط الفطرة بالخالق – رفض المرجع الديني من حيث التشريع، وليس من حيث التعبد الشعوري، والذي حضر معه مراراً في كتبه، وفي حديث ضميره الحزين في المتنزه حيث ينفرد بنفسه، وهي مذكرات شخصية اجتماعية تعكس جانباً مهماً من حياة روسو.       ولقد جهدتُ في مراجعاتي لفلسفته، على إعادة بسط المنظومات الأساسية لهذه الفلسفة، من خلال حياة وأفكار روسو، كخارطة تَتَبُّعٍ منضبطة، وهو تسجيل مهم للجهد العظيم الذي نحته روسو، رغم كل نقدي ونقضي لبعض مدلولاته، لكنه عقل فريد يستحق التكريم العالمي، المستقل عن هيمنة أوروبا على الأكاديمية الدولية، وعلى رواق البحث الفلسفي المطلق.       لكن لا الأفكار، ولا المسلمات، ولا مساحة نافذة الحياة، ولا المصادر وقَفَت في المشروع عند روسو، ولكنني وجدتُه الأنسب للانتخاب في سؤال العالم الأخلاقي نحو هدف الدولة والإنسان الفاضل، الذي نناقش فيه روسو وغيره، في سبيل ميثاق يعبر إلى مساحة مجهولة، وإلى فراغ مستمر، تمثل فيه الفلسفة الأخلاقية الإسلامية تلك البوابة الكبرى، التي أُسقطت من الحوار العالمي، ولكن قبل ذلك قُطع عليها الطريق في أزمة الشرق المسلم ذاته.       فهي مهمة نحتٍ تجديدية، في فلسفة التشريع والأخلاق وعلاقتها بالقانون الاجتماعي، ووصل ما انقطع من علم الاجتماع، من قبل ومن بعد ابن خلدون، وهي أيضاً مشروع حديث لرحلة الاستغراب التي دَعت إليها نخبٌ متميزة من مفكري العرب والمسلمين، ولكن لا تزال المجهودات فيها محدودة، فنساهم في وصل ما انقطع في سبيل حضارة التكوين الجديد للقيم الإنسانية في الفلسفة الإسلامية.وبعد رحلة مكثفة ومنهكة، يسر الله إنهاء مشروع مهم في حياتي الفكرية، رجوتُ به أن يكون مساراً تجديدياً مهماً، في علم الاجتماع الإسلامي، لكن عبر دخول واثق، يقرأ رحلة الغرب في هذا العلم، بعد أن توقف مساره الإسلامي الأهم، عند مقدمة ابن خلدون، ولسنا هنا نزعم أن مكتبة تراثنا الضخمة والعظيمة عجزت، لكن عهود التمكن السياسي المستبد، عطّل فعالية هذا العلم، وقيّد فرص تطوره لصالح حاضر العالم المسلم ولصالح العالم الجديد، فرجوتُ أن يكون كتاب الدين والإنسان والقانون الاجتماعي، محاولة ناجحة لبعث هذه المهمة.       وقد يُشكل على البعض فهم المشروع فيقرأه في اتجاه واحد، في حين أن مساراته متعددة في غرضها الفلسفي، لتجديد علم الاجتماع، من الفلسفة القديمة، حتى مفهوم الدولة والمجتمع والفرد في العصر الحديث ومرجعها الفلسفي ومنها:أنه عرض شامل لفلسفة روسو، ورحلة نقد لذاتيته، تتضمن ما حاولتُ أن أضع له تفسيراً وشرحاً اجتهادياً، عبر إدراك تفاعل روسو النفسي، وأرشيفه المختار، وتقريراته الفكرية التي خلص إليها، وبالطبع تضمنت نقداً لها، ليس لهدف النقد بذاته، ولكن لتمحيص الفكرة، وأين أخطأ روسو وأين أصاب، وأين غابت عنه ذاكرة عالمٍ آخر، تلقى ما يُكمل فطرته، من خلال الوحي الإلهي، لا الإلهام الوثني، وهو وحيٌ يتطابق مع بذور الاستشعار الفطري في الذات الإنسانية.