على طاولة مستديرة مع مهنا الحبيل

قراءة في كتاب

لعلي اعطي لنفسي الحق في ارشاد القارئ المهتم، عن كيفية الدخول إلى جهد أ. الحبيل الفكري، بوصفي أحد المتابعين لهذا المشروع من بدايته مع كتاب فكر السيرة.. قراءة ثقافية معاصرة للسيرة النبوية، وصولا لهذا الكتاب؛ فلا ألزمه بضرورة اتباعه بالكتب السابقة-وإن كان مهم- ولكن أقول له اجعل تركيزك عاليا لإلتقاط الفكرة، حتى تفهم ما يحاول أن يقودك له الكاتب، أيها المهتم بكيفية نهضة (حاضر العالم الاسلامي) والعربي خصوصا، في ظل هذه الفوضى السياسية والمجتمعية والبث الفكري الجدلي مع اندثار للقيم الفارقة التاريخية للمنطقة..
اختار أ. مهنا الحبيل، عنوان طاولة مستديرة لكتابه الصادر مطلع العام الحالي في ١٤٨ صفحة ، ليناقش فيه سير بعض الشخصيات، رابطا لها ببعض القضايا الجدلية المطروحة على ساحة الفكر العربي.
دعونا نلبي دعوته في الجلوس معه، محاولين بسط وفهم رؤيته التي يحاول ارسالها من خلال انتقاء الشخصيات والقضايا، وكيف يمكنها مساعدتنا في تجميع خيوط المشروع الذي يعمل عليه من أول اصدار له(فكر السيرة) وصولا للكتاب السادس، الذي بين أيدينا، والذي من خلاله يحاول رفد القارئ العربي المهتم بمسارات النهضة، بمحتوى نوعي يمهد الطريق-خاصة لجيل الشباب المؤمن بفارق رسالة الاسلام، في معنى الإنسانية، أو حتى الشباب الواقف في مرحلة الشك بعد العواصف السياسية الأخيرة للوطن العربي وتبعاتها الاجتماعية والثقافية؛ لتمكينه معرفيًا من دلالات الفكر الاسلامي المعرفي في جدل القياس الفلسفي لقيم الحياة ومدى صلاحيتها للإنسان.
“الوجودية الغربية في ميزان العقل والأخلاق”
الفصل الأول من الكتاب، يعكس معنا أ. الحبيل الطريق من نهاية الوجودية، إلى بداية فطرة الخلق، متخذا هنا من سيرة وأفكار نبي الوجودية سارتر مثالا مركّبا يخدم من خلاله أكثر من قضية، والتي تعتبر من أكثر القضايا المعاصرة عصفا بالشرق والغرب- الوجودية، والراديكالية النسوية- في ميزان دقيق بين علاقة سارتر مع نبيّة النسوية سيمون دي بفوار البذيئة والشائنة، مع علاقاتهما الجنسية المتعددة الأخرى، وبين مرجعيتهما الفكرية المعتمدة من البعض، كبديل لما فُطر عليه الناس من اختيارات تحفظ كرامة الإنسان عموما وكرامة وإنسانية المرأة خصوصا.
وكتعليق من دفتري، ارجع مع أ. الحبيل الى دراسته لفكر السيرة، وكأني به يقول: كيف بمن كانت سيرة سيدات بيت النبوة، مرجعيتها التاريخية، تقبل بأن تتخذ من دي بفوار قدوة لها في مسيرة اصلاح أو تأسيس جديد؟!
وأحسن الفروض، أنه من الكسل الفكري..
ففطرية الإسلام، المتمثلة في قمة تزاوجه بين الروح وأخلاقياتها وبين الذات البشرية والطبيعة من حولها، لا يمكن لعقلٍ سليم أن ينكر أنها سبيل طمأنينة وراحة نفسية..
يستفتح أ. الحبيل فصل الكتاب الثاني “تصحيح المفاهيم”
بالحديث عن ثقافة الحوار الغائبة في الأوساط الثقافية، والمؤسف حتى الاسلامية-الاسلامية
والحوار نهج أورده القرآن الكريم، ومارسه النبي عليه الصلاة والسلام وصحبه الكريم. واقرار الحوار دليل على صحة وتعافي لأي مجتمع بعكس (نظرية اسقاط المخطئ) المستحدثة في مجتمعات المسلمين، والتي بدورها أدت إلى الضعف الفكري والثقافي؛ بسبب الخوف وكبت الحريات؛ فالثقافة تتنفس بالحرية!
وهذا الحديث لا يعني عدم تقييم الوارد من الأفكار، بل تفعيل الجدل بشأنها لتفكيكها ومن ثم القبول أو الرفض.
فغياب الحوار الذي يحفّزه ما وصفه ب( تقديس آباء الفكرة) وهي حالة تجتاح الاوساط الفكرية العربية من كل التيارات، وتُنتج لنا أجيالا أقرب للتحجّر، لايدفعون للأمام بل يدافعون عن الماضي فقط.
هنا يتخذ أ. الحبيل من المفكر جودت سعيد نموذج السيرة في مقتطفات عن حياته ومبادئه وأفكاره والأهم مساحة الخسارة من تهميشه التي ارتدت على المشرق العربي وعلى سوريا بالأخص. حيث يفرد الكاتب مساحة لمدارسة (لا عنف) جودت سعيد، بين بداية الثورة وما خطط له النظام بالزج في دوامة القتال، في جولة تساؤلات هادفا من خلالها بداية نقد للمسار.
في “رحلة مع مصطفى محمود”، يُبحر معنا أ. الحبيل، خلال الفصل الثالث، في لقطات من سيرته منذ الطفولة وحتى نهاياته في (العلم والإيمان) باحثًا عن الأسباب الخفيّة وراء التحولات الكُبرى في حياة الرجل من التأسيس الأسري الفطري الذي قد يكون أكبر أسباب العودة إلى الرشد بعد التوهان، إلى نباهة د. محمود وتفكيره في الحياة الذي ولّد لديه اسئلة المعرفة ابتداءً، مرورًا بشخصيات في حياته كان لها الأثر في الانعطافات، ولا ننسى دور المؤسسة الدينية أو السياسية عندما تُمارس الاحتكار أو تفرض الوصاية المطلقة وأثرها..
الفصل الرابع ننتقل مع الكاتب من مسار الشك والإيمان، الى مسار الثقافة والسياسة مع الأديب السياسي صاحب (حياة في الإدارة)، د. غازي القصيبي ليعكس لنا صورة من صور (المثقف العضوي).
غازي العروبي القومي فكرةً ومبدأً، السياسي الذي اختار الفاعلية من خلال طواقم الحكم في الخليج، في نموذج ذكي نفهم من خلاله الشعرة المتأرجحة بين العروبي الآخر والعروبي الثورجي؛ في معنى الاصلاح الميداني لمواطنه، أو قوميته من خلال قضية العرب الأولى-فلسطين- وما ثبّته خلال مسيرته من الحياة الدراسية في الغرب وحتى مواقفه الرسمية وهو فاعلا في نظام الحكم، وبقلمه حيث تشهد له أبيات قصيدته في الشهيدة آيات الأخرس.
هذا الفصل يحمل سؤالا نقديا مستحقا في مسيرة الرجل، فبعد أن ثبّ له أ. الحبيل دوره في الاصلاح الاداري للمواطن، تسائل عن دوره في اصلاح الإرث الحقوقي، وهل له جهود مخفيّة؟
وأيضا تطرق لملف حرب الخليج، والحرب الوظيفية بينه وبين الصحوة.
الفصل الخامس.. ماليزيا وتجربتها في الدولة المدنية المطبوعة بهوية الاسلام الروحية الأخلاقية، وهي فكرة عميقة وراسخة قادها تحالف وطني، وتشهد انسجاما كبيرا في المجتمع بين البُعد القومي للدولة وبين بقية عناصر المجتمع، وقد فصّل فيها أ.الحبيل باستفاضة في كتابه (زمن اليقظة). ويستدعيها هنا بغرض طرحها في المقابل مع الدولة الصينية وقضية الايغور، وأيضا حملات كراهية الحزب الهندي الحاكم مع المسلمين.
الفصل حمل فكرة أخرى من خلال الصراع الباكستاني الهندي، وهي فكرة أيضا يرصدها المتابع لمشروع أ. الحبيل، تتمثل في حرصه على تفعيل مفهوم الكفاح المدني بدلا عن المواجهة الدينية في مثل هذه القضية وغيرها؛ فتصعيد المواجهة الدينية يعجّل بوأد القضايا..
ونستمر مع شرق آسيا في الفصل السادس، وهذه المرة إلى سنغافورة وملاحظات على قصة نجاح زعيمها لي كوان.
حيث حمل الكتاب قصصا ورؤى في ميزان النقد التشريحي والإنصاف معا، لمسيرة لي كوان في جوانب عدّة، منها علاقته مع حركة إمنو الماليزية، بل مع الأمة المالاوية ككل، وأيضا تقاطعه مع الغرب الكولونيالي والصين الشيوعية؛ فهل بالغ أ. الحبيل بوصفه بالنرجسية، في علاقته بالاسلام والمسلمين المالاويين، وهو يفرض عليهم التخلي عن قيمهم ووجودهم مقابل مصالح ليبرالية ومعيشية؟..
الفصل السابع ، عودة على ما بدأ به، القضايا المهددة للإنسانية، فيحمل هذا الجزء عنوان”المثلية.. مشروع الكولونيالية الأخير”
الأخير، بمعنى استبدال الاستعمار التقليدي، بالقهر الثقافي في صورة برنامج ضخم تديره الرأسمالية وتروّج له بالضخ الاعلامي والتوظيف الدولي للظاهرة وفرض التشريعات الغربية.
هنا يستعرض أ. الحبيل موقف اللاعب السنغالي إدريس غي الرافض لدعم المثلية والهجوم الغربي عليه، مع التضامن الأفريقي الواسع معه؛ في صورة أراد من خلالها لفت النظر لشركاء القيم للمسلمين وكيف يمكن تقوية هذه العلاقة ودعمها حتى تصبح قوة في مواجهة غزو ( اللا قيم) القهري تجاه الإنسان، وتفعيلها في ميادين الثقافة والرياضة.
نختم مع أ. الحبيل الكتاب بخواطر عكستها زيارة له لأمريكا، غرق فيها بتفاصيل نيويورك وتعدديتها، واصفا لها ب “الضِفف الأمريكية المتعددة”
والعنوان يشرح خاطر الكاتب، خاصة في سرده لمنظر تأمين المدينة بواسطة مجندين ومجندات مسلمين، مقابل ضِفة المخدرات وانعدام الأمن من غيرهم، مع استرجاع تصعيد الارهاب رسميا من الغرب بوصفه فعلا مسلما!
في هذه الرحلة نصطحبه في جولة داخل أروقة الأمم المتحدة، وأيضا متزامنة مع مراجعة له عن تأريخ التأسيس، واداء هذه المنظمات..
ولنا جلسة تأمل عميقة في حي هارلم، وكفاح مالكوم إكس وسيرته، وعودته في صور أخرى، يجمع بينها التعطش الكبير لنداء الروح في عالم اغرقته المادية وجرفته تجريفا..
رغم صغر الكتاب وتفرّق جزره الموضوعية؛ إلا أنه يحتاج اعادة قراءته لاقتباس أفكاره.

mohana63

Recent Posts

العقل المعرفي..الفارق الفلسفي الإسلامي

العقل المعرفي.. الفارق الفلسفي الإسلامي مهنا الحبيل في رحلة الجدل الفلسفي المعاصر، تختط قواعد المقارنة…

4 أيام ago

أفق السلام الكردي_التركي

أفق السلام الكردي-التركي مهنا الحبيل أياً كانت القراءات المختلفة، لموقف دولة بهتشلي القائد القومي التركي…

4 أيام ago

فرض الديمقراطية الدموية

فرض الديمقراطية الدموية مهنا الحبيل يفكك روسو التحديات التي تواجهها السلطة الاشتراعية، وخاصة كونها القوة…

4 أيام ago

أصحاب الظرف الخاص في مجتمعاتنا العربية

أصحاب الظرف الخاص في مجتمعاتنا العربية مهنا الحبيل هل توقفت يوماً عند ذلك الطفل، الذي…

4 أيام ago

رسالة للزواج الجديد

رسالة للزواج الجديد مهنا الحبيل يبدو عنوان البرنامج الوقائي، لوازرة التنمية الاجتماعية في قطر، مهم…

4 أيام ago

الديمقراطية التي تحمي السيادة

الديمقراطية التي تحمي السيادة مهنا الحبيل يعرضُ روسو لطبائع الشعوب وما يُلائمهم من حكومات، كسلطة…

4 أيام ago