عودة البرئ
مهنا الحبيل
15/3/2022
منذ أول وهلة يشدك بقوة الفلاح المصري البسيط، بين صور المشهد الذي يعرض لك تفاصيل الحرمان والفقر، ويسير بك مع روح الفكرة القوية البسيطة للكفاح المعيشي قبل الحقوقي، وفي حكاية وحيد حامد التي جسدها فيلم البريء دلالة قوية على ما نقول، لقد كانت مآسي سجن وادي النطرون ممتدة إلى عالم الإنسان وقصته مع الحرية والعدالة، وهذا ما نُقل عن حامد في هدف الرواية، وانه أصر على احمد زكي بسبب أنهُ يجسد إنسان القصة كحقيقة أمام المشاهدين، وقد كان.
منع الفيلم من البث بكامل مشاهده حتى عام 2005، كان المشهد المختلف عليه صعب للغاية، حتى بمنظورنا الفكري الحقوقي، فقد ختم بثورة المجند على المشروع الأمني ضد الشعب، بتصفية الأدوات من الجنود الجهلة مع الضباط بذخيرة حية، وهذا مآل يصعب ترويجه بمنطق إنساني، لكنه استفاد في تاريخ إنتاجه من موقف نظام مبارك، الذي كان يوازن بين أثر الفيلم إيجابيا لما بعد السادات، وأثره على القوة الأمنية القمعية التي عاد لها مبارك، لكن لم تكن بمستويات السيسي وثورة يوليو.
أصل الرواية مؤسس على انتفاضة 1977 في عهد الرئيس أنور السادات، والاختناق الاقتصادي في مصر، الذي تزامن مع قرار السادات بالتحوّل عن المعسكر الاشتراكي، إلى مدار السوق الرأسمالي وتقربه من واشنطن، غير أن الحركة الوطنية التي كانت ممثلة في الفيلم عبر اليسار المصري، كانت ضمن الجسم الشيوعي المصري، وهو الضلع الآخر من المعارضة التي صُب عليها عذابٌ العهد الناصري، وكان الضلع الآخر هم الإخوان المسلمين، هذه المعاناة التي جمعت الفريقين، لم تحفزهم لحوار وطني موحّد، وبالتالي إرث الاضطهاد القعمي الجمهوري للمعارضة أسس في عهد عبد الناصر وواصل في عهد السادات.
هنا نعود للقصة التي جسدها أحمد زكي بروح مندمجة كلياً، فمن صوت الأمل الحقوقي الذي بعثه الكادر اليساري من رفاقه في القرية، باسم أن الجيش المتداخل مع الأمن العسكري يمثل الأمن القومي، فالانتساب له هو عمل وطني أخلاقي، ينتقل الفلاح البسيط المضطهد من أزمة التنمّر في داخل القرية والتنابز الاجتماعي المسيء، إلى بيئة أفضل تطلق طاقته في سبيل مصر، وهناك أيضاً مشهد رئيسي عبّر فيه الفيلم عن الفارق بين بيئة القاهرة والأرياف في قضية التحرش بالنساء، لا يزال درسه حاضراً.
يعبر (أحمد زكي) سبع الليل كل الاختبارات ويتفوق بمعايير الأمن العسكري، فيُختار كونه أمّيٌ وجاهل وذو بنية جسدية قوية، فينطلق إلى فرقته العسكرية، التي اتضح أنها ضمن مفرزة أمنية في سجن وادي النطرون، يَصفع سبع الليل بأمر من الضابط رفيقه الريفي دون سبب أو مبرر، ضمن التمارين التي يختبر بها المجندون، فلا كرامة لأي عضو في العسكر حين تأتي الأوامر، فما بالك إذا أتت الأوامر ضد المدنيين المصريين؟
اين هي حدود الدفاع عن الوطن التي ذكرها حسين وهدان، صديق سبع الليل والحنون عليه، والذي مثل دوره الفنان ممدوح عبد العليم، يتبين لسبع الليل بناء على جواب ضابط التعذيب المكلف بتسخير الكلاب وصور القمع الأخرى، أن العدو هم النشطاء الوطنيون الذين كانوا يرفضون إجراءات التعسف والقوانين القمعية، ركّب سبع الليل صورة أعداء الوطن وهو وصف الضابط على أولئك النشطاء، فبرر له المصطلح حجم التعذيب الذي كان يُصب على الإنسان المصري.
شارك في الفيلم نخبة من نجوم السينما المصرية وبالذات جميل راتب وصلاح قابيل، كانوا يمثلون قيادات أو رموز الحركة الوطنية، من هي الحركة الوطنية هل ممكن أن نؤدلجها، ما هو الفارق بينها وبين تحول الناشط إلى كادر أيدلوجي يخدم حزبه، إسلامياً أو يسارياً هذه حكاية طويلة وسؤال صعب، لكن الجامع هنا هو في المشروع الحقوقي والسياسي والمعيشي الذي يُضحي من أجله النشطاء.
كان رشاد عويس (صلاح قابيل) منظراّ للحراك الوطني، وكان يضيق بحجم الإذلال في المعتقل، فرتب خطة للهروب كان الحارس المناوب فيها سبع الليل، تعثر أمل الحرية بمأساة قاسية، مات د. رشاد عويس تحت خنق يدي المجند سبع الليل، استُخدم سبع الليل لقتله، في ذات الوقت التي تنطلق مساحة الأجنبي وعدو الوطن الخارجي لداخل مصر، ليغتال الفدية التي قُدمت لجهله الأعمى ففتك بالأحرار وسلم منه ومن مفارز الأمن والجيش عدو الوطن الخارجي.
شكل مقتل رشاد الذي عرفته أوساط عالمية بسبب فكره، صدمة شعورية لم يبالي بها النظام لكنه اضطر أن يتعامل معها، ويبعث الفيلم رسالة بأن الوفد الحقوقي الدولي كان متواطأً في الصورة الكاملة عن مصر بسبب الرعاية الغربية للنظام، وإن علت أصوات البعض الحقوقي فيه، كان مهندس القمع الكبير وقائد السجن العقيد توفيق شركس (محمود عبد العزيز) نجحت الرواية الحقيقة الني جسدها الفيلم، في إظهار حجم الازدواجية في الطبقة البرجوازية في الجيش والنظام، فشركس الإرهابي في قمعه هو الحنون (الكيوت) على أطفاله ومحيطه الاجتماعي.
خرج طلبة رشاد والكوادر النضالية في حملة احتجاج أخرى، كان وهدان الذي وشى به طلبة من الجامعة في صدارتهم، اعتقل النشطاء ورُحّلوا، وعند أول نزولهم من عربات الأمن التي شحن في مثلها ضحايا ثورة يناير بعد انقلاب السيسي، ضربوا بالهراوات كوجبة أولى لتعذيب الروح الثورية، ظل سبع الليل يضرب في الضحايا، حتى تبين له أن حسين وهدان هو الجسد الذي يعذبه، انتفضت روحه الأخلاقية وصاح لأ..لأ..حسين مش أعداء الوطن.
لكن شركس اعتقله مع النشطاء، قبل مقتله اجتمع وهدان مع سبع الليل حكى له الحكاية، فتبين لرفيقه أن أولئك المساجين الذي خُنق أحدهم، كانوا هم الوطن وكان أعداء الوطن يعذبونه ويقتلونهم في السجون، باسم وطن النظام ذبح وطن الشعب والمحرومين، بأيديهم وبأوامر المستبدين.
1 Comment
Comments are closed.