مهنا الحبيل
إن استحضار رؤية فرانز فانون في المسار الأخير للبشرية، تقوم على سؤاله من يردع قوة الشر عن العالم، ومن هي قوة الشر المركزية فيه.
فحين نعود الى تقييم واقع الكون الأرضي، ومستقبل الكوكب، نجد هنا أن الهيمنة السياسية والسُخرة الاقتصادية والنظام الربوي، ليس كموقف ديني بل عبر تقدير المآل العملي لتقييم مصالح الشعوب، وحصر ضحاياهم، وحين ننظر الى موازين البيئة واختلال حقوق الطبيعية الخلّاقة فيها.
وحين نراجع الحملة العالمية، التي تقودها القوة الغربية المركزية عبر مجلس الأمن والناتو، وغيره من منظمات، لتدمير الأسرة الفطرية وفرض الجندر عليها وتجارة الدواء والعلاج، والقوى الكبرى المسيطرة على الإعلام التقليدي، والسوشل ميديا، وما تروّجه كل لحظة لهدم كل أساس إنساني.
وحين نُحصي سوق أسلحة الدمار الشامل، والحروب بالوكالة، وحركة الهجرة الضخمة، من عالم الجنوب المحروم الى الشمال، فإن كل الإحصاءات تقدم دلالةً لفانون بأثر رجعي، حيث كان السؤال الآخر لديه من ينقذ هذا العالم، من المآل الذي وصل إليه اليوم، وهل نلقي سلاح العنف الأخلاقي لمواعظ الغرب المنافق؟
نحتاج هنا أن نُعقّب على فانون، بأن العالَم الشيوعي الآخر الذي أيده في حياته، لم يكن يحمل بذرة إنقاذ، ربما كانت ميزته لأهمية التدافع بين كِلا القوتين الامبرياليتين الأمريكية الأوربية الغربية والروسية الغربية أيضا، في إرثها الاجتماعي المشترك.
أما التعقيب الآخر فهو أن شرعية العنف ضد المدنيين في الإسلام، لا توافق نظرية أسامة بن لادن الذي اتفق مع فانون، غير أن تفريط المسلمين ببناء قوتهم الذاتية، وتفعيل أدوات الردع، في صد قوة القهر العالمية أخل بميزان القوة الخيرية التي تواجه الشر العالمي.
إن مرافعات فرانز فانون، حملت بقوة ليس على مصالح الغرب اللوجستية والاستراتيجية وحسب، ولكن على رفض هياكل الحكومات (الوطنية) التابعة للسياقات الاستعمارية، فسقف فانون للمواجهة كان مفتوحاً، فهذه الحكومات ومشاريعها في فكره، هي برنامج مضلل، لتأمين الذات الوجودية الاستعمارية بغطاء وطني باسم البلاد (المستقلة).
يتضح هنا تأثر فانون بحملة الروح الثورية الحمراء، التي هيمنت عل العالم الجنوبي، غير أن الحرب المفتوحة للرايات اليسارية الماركسية، لم تحقق معادلة توازن وتقدم حضاري، يُعيد البرنامج الثوري في نهضة مدنية تقدمية، في الزراعة والتجارة والمهنية والتعليم، تُقوّض سلطة التوحش للعالم الحديث، ولقد كان بعض الفشل في نماذج مروعة تحول فيها الماركسيون ذاتهم، إلى حفنة قمعية، اطلقت السلطة في أيدي عسكرية فاسدة، كادت تعلن ذاتها آلهة بين الشعوب.
وفشلت الفكرة الإلحادية التي جاملها فانون، رغم أن روح الجهاد الجزائرية، كانت تشكك فيها في ضميره، وتحولت اليوم بعض قوى اليسار، الى استثمار آخر لصالح (قيم) العالم الحديث، فتعززت سلطته الوحشية على الناس، ولو كان فانون حياً بيننا لربما تغيرت نظرته، وأدرك أن معركة المقاومة الفلسفية، لا سبيل لنجاحها في إنقاذ العالم، إلا عبر إرادة روح مختلفة عن المادوية الشرسة، التي تهيمن على هذه الأرض.
لقد استطرد فانون في تفكيك صور الاستتباع للغرب، في أفريقيا، وأصر على معركة الخلاص الكبرى، وهي فكرة لا تزال تتردد ضرورتها حتى اليوم، غير أن السبيل إلى التحالف الإنساني، سقط في غمرة الحروب الأخرى، وظلت مبادئ عدم الانحياز، ضئيلة في المواقف العملية، ومع ذلك كله فإن ما استند إليه فانون، من أن كارثة الحداثة سوف تجثم على هذا العالم البريء، وتقتلع روحه وتهدم أي إطار للعدالة الاجتماعية والسياسية، صحيحٌ تماماً.
ولذلك فإن فلسفة فانون تعود بقوة، وها هي دعاوى الحوار العالمي، وحتى حوارات الأديان ومنصات التفاهم الدولي، تُحول إلى ذرائع لصالح القوة الكولونيالية، وأن البعث الواعي لخطورتها لا سبيل له لمقاومتها، فهل كان العنف الأخلاقي ضرورة؟
في حالات محددة يمكننا قبول ذلك، حين ننظر للمشهد والمآل، وتبعات الحال للشعب المغدور الممتحن، لكننا لا يمكن أن نطلقها كقاعدة مفتوحة، فإعادة تدوير ما كان يعتبر قوات (الجهاد العالمي) تم اختراق شبكات عديدة منه، وحتى توظيف داعش واسقاطها للقاعدة، وما تبقى من مبادئ أسامة بن لادن، يدخل في هذا السياق المخابراتي.
ولذلك نعود لطبيعة التشكل الفكري لمبادئ النضال العالمي، وأهمية تحريرها بأرضية عميقة في وعي الفِكرة المقاومة، ومرجعيتها القيمية الإنسانية، ودعم ميثاق التحالف فيها، مع مد الجسور لكل مساحة متاحة للتجارب الناجحة، خارج القوة الكولونيالية، فهو الخيار الأسلم المتاح.
لكن روح فانون التي عانقت الشعب الجزائري، واستقل ضميرها عن الميزات الفرنسية، اصطفت بكل قوة مع الشعب الجريح، فهو نموذج خيري عظيم ممتد التأثير الى هذا الزمن، كما أن حضور فانون في اعلام جبهة التحرير الوطني، وما قدمه كطبيب نفسي وكمراقب لمسرح المواجهة، عرض صورة تشريحية مهمة لأزمة الفرد المضطهد المقاوم، والضغوط النفسية والاجتماعية الهائلة، التي تواجهها الجبهات الوطنية، ثم السؤال الكبير الذي لا يُغير من أهمية معادلة النصر الرئيسية.
هو أين ذهب حلم الجزائر منذ الاستقلال حتى اليوم، وهل انطلقت رحلة النهضة والقوة ونجح الفرز الوطني، في تحييد الروح الفرنسية، والاستتباع لها، أم أن نظرية مالك بن نبي في القابلية للاستعمار، لها حظها على الأرض الوطنية، في التاريخ السياسي، فتمكنت من قطع الطريق على حلول مشكلات النهضة؟
لقد حاول فانون ربط افريقيا ببعضها، وربطها حتى بالمشرق، في معركة التحرر الكبرى، غير أن البضاعة الفكرية التي دسّها السوفييت في حقائب المناضلين، كانت فاسدة، فسهُل اختراقهم وسقط حلم الحرية والتقدم المختلف، عن المركزية الإنسانوية الغربية.
ومع ذلك كله، فإن دعوة فانون للوحدة الجنوبية للعالم الحر، جديرة بالاهتمام، وأن منظاره في تمزيق المجهر الأعور، قضية مبدأ لذلك الزمن وحتى آخر ساعة في تاريخ الأرض.