قراءة في كتاب “في سبيل التنوير”

أستفتح بشكرٍ واجب لكرم الثقة من أ.الحبيل وتشريفي للمرة الثانية بالاطلاع على مسودة كتاب له بعد كتابه الفكري السابق «زمن اليقظة».
وأُثنّي بتنبيه بسيط لمن يهتم بمثل هذه المساهمات الثقافية، إن كان الكتاب أول قراءاته للكاتب فمن الأفضل مراجعة الكتابين السابقين، المذكور أعلاه وقبله «فكر السيرة»؛ لا بسبب اتصالٍ ضروري ولكن حتى يكتمل لديه التصوُّر لمركزية الفكرة التي يسعى إليها.

ففي فكر السيرة وكبداية انطلاق في سلسلة تجديد الوعي الفكري الإسلامي يقرأ في كتابه، السيرة بصورة فكرية مُعاصرة لترسيخ مبادئ قيمية أصلية في رسالة الإسلام ومنهجه أمام الاجتهادات البشرية لتطوير البرامج الحياتية، وتغذية المجال المعرفي.

أما في زمن اليقظة فيُعرّج على الفكر الإسلامي المعاصر بقلم نقدي موضوعي، مستعرضا تاريخه، ومساهماته في مسيرة الوعي، واقفا على مسببات أزمته والقصور الذي طرأ عليه، طارحا مخارج تساعد على التقويم الذاتي، ومن ثم تجديد المسار بما يواكب الأسئلة العصرية.

ومن ثم يأتي الكتاب الذي بين أيدينا مكملا للمسيرة؛ بحيث يواصل فتح ذات الملفات وبنفس التنزيل الواقعي، لكن مع توسّعٍ واختلاف في الأسلوب؛ فينتقل الكاتب إلى أسلوب شبه تحاوري بين الأفكار مما يساهم في المساعدة على تحرير المفاهيم ومحاولة المقاربة أو رصد نقاط الاختلاف.

أ.الحبيل إذا صح حصر إنتاجه الفكري نجده من داخل الإطار الإسلامي وبصورة مركّزة مهتم بجانبي الحقوق والعدالة، وبالمقام الأول تسود كتاباته عقيدة الإصلاح.
وبما أن له باعا في التحليل السياسي، تأتي الفكرة عنده متجاوزة للتجريد وتميل أكثر نحو الواقعية العملية، ولهذا يمرحل أبواب الجدل وينادي بالأرضيات الملائمة بدايةً.

أرضية للحوار الإسلامي/‏الإسلامي، والإسلامي/‏العلماني، والإسلامي/‏الغربي وبين كل متحاورين يضع طريقا ثالثا مبنيا على مشتركات، فالمراجعات العريضة والحفر الجريء يصنعان تحرير المفاهيم، ومن ثم بسط مساحة الجدل، بروح بعيدة عن توظيف الاستبداد ورسملة الثقافة، خاصة بعد المآلات المروعة التي نشهدها من بعد الربيع العربي وما صحبه من بيان للخواء الفكري والردة الأخلاقية في إدارة المواقف والاختلاف.

الشريحة المُخاطبة بالدرجة الأولى عنده إجمالًا وفي هذا الكتاب هي الشباب العربي بكل توجهاته والشباب المسلم في الغرب؛ فهو يسعى لتمليك هذه الفئة قواعد انطلاق تأسيسية تقوم على وعي ما شاب المسيرة الثقافية من تضعضع.

تم توزيع الكتاب على عشرة فصول تباينت في الجزئيات وتقاربت في هدفها الكُلِّي؛ وأعتقد أن طريقة الطرح هذه من هوادم الملل إذ ممارسة القفز بين الفصول لا تضيّع الفكرة وفي نفس الوقت تفتح المجال التداولي لها بكل تشعباته.

يبدأ بتمهيد متصل بالكتاب السابق ويستعرض النقد الذي كان في عنوان كبير «الهدم الإيجابي والتأسيس الرشيد» وهنا يناقش مابين الفكر والفقه وتحدي الأسئلة المعاصرة، مابين الأصل الديني وسرديات التدين، وكيف للظروف الاجتماعية وحتى النفسية من دور في التطفيف على أصول كثيرة واجتهادات إيجابية.

«المعرفة والأخلاق قبل العمل السياسي» الفصل التالي وهنا يتبيّن المعنى بالتأسيس الرشيد؛ حيث الدعوة للانفتاح الثقافي وعدم تهيّب الاصطدام المعرفي، لكن هذا الأمر يأتي بعد وعي المسلم رسالته في الحياة ومقاصد شريعته، ومن ثم يأتي معترك السياسة وقد تأسس الفرد بأخلاق الإسلام وبعلوم الواقع فيعلو الصوت الإستراتيجي والتمكّن ولا يحتاج لتصعيد عاطفته والتجييش بها.

من الفصل الثالث تبدأ طريقة العرض الحواري؛ إذ نجده يفرد مساحة للدولة المدنية من باب التنوير الإسلامي، ويحاور مفاهيميا حولها كلّا من المحافظين والعلمانيين، ويبحث عن المشترك بين التنويري والمحافظ، ويفرّق بين الفكرة العلمانية والأيديولوجيا.

يمتد هذا الحوار مع تقاطعات فقه الواقع وسؤال أين الإنسان من كل هذا الجدل، ونماذج ضياع معنى العدالة والحقوق عند الدول القائلة بالمحافظة وتطبيق الشرع المسيّس، وأيضًا توظيف التطرّف الآخر.
الفصل الخامس مدعاة للتوقف المتأمل، وهنا يلامسني سؤال طالما شغلني عن التأطير الهوياتي وكيف يساهم في تولّد العنف.
في هذا الفصل «العروبة بين الإسلام والتجربة العثمانية» محاور عظيمة عن تعدد الهويات والتبديل الفني؛ فأنت عروبي ثقافي لا يمنع كونك مسلما أمميا! يناقش الكاتب هنا أثر الضيق الأيديولوجي على سعة الحضن العروبي، وكيف غفل الإسلاميون والقوميون خطورة ذلك، وكيف يمكن للعودة لهذه الرابطة بمفهوم الإسلام الحضاري من المساهمة على تقوية الذات أولا باحتضان الطوائف والأقليات تحت هذا الإرث الثقافي الممتد جغرافيا والضارب في التاريخ بروح التعايش والائتلاف، ثم فتح مجال التكامل مع عناصر الأمة الأخرى، وكيف أن المصالح السياسية رابطة تعايش بين الدول والقوميات بصورة أكبر من عواطف التاريخ الجياشة.

بقية فصول الكتاب ينتقل بِنَا أ.الحبيل لحوار أوسع؛ والسعة هنا تحمل أسبابها من واقع تجربة الكاتب المهجرية ومن قبلها عمله ببحث استقرائي لدراسة إمكانية العلاقة الإسلامية الغربية في مسارها الثقافي، لشق طريق التأثير على الرأي العام الغربي وتصحيح الرؤية.
فيبدأ بالحوار مع الغرب المعرفي بمنصفيه ومطففيه، وعن واقع مسلمي الغرب مابين مطرقة المراكز التربوية وانغلاقها على ثنائية المدرسة الفقهية وتدوير مشاكل الشرق، وبين سندان الإعلام والسياسة اليمينية الغربية المتطرفّة وظاهرة الإسلاموفوبيا.

ومابين انفتاح اليسار بمفهومه المجمل ومشتركات الفكر المدني في الإسلام مع مبادئ العدالة الاجتماعية والأممية العالمية ومابين التطرّف السادي تجاه قيم الفطرة الإنسانية ومفهوم الأسرة وحصار مسلمي الغرب والتضييق عليهم وإجحاف الحق الدستوري لهم، وكيف لعدم الوعي بكيفية المدافعة في هذه الملفات وتصعيد عواطف الانتصار الديني من مساهمة في زيادة البؤس عليهم.

هنا يجد القارئ خُلاصات ورش ولقاءات ثقافية وزيارات لمراكز وحوارات أكاديمية وحفر بحثي، مقارنات بين تشكيل الرواق الثقافي الغربي، واستدعاء لأفكار سابقة وتجارب ناجحة لوعي الفكرة وحُسْن التصرف.

أثار فضولي الفصل الأخير بفتح الكاتب لمشروع جدلي كبير وطرق بابه، وتساءلت: هل بهذا يمهّد لأفكار قادمة؟ ماذا عن ظاهرة الإلحاد الاجتماعي بعد كوارث السياسة الأخيرة والنزيف الدموي الشرقي، وأين نضعه ما بين الفلسفة والأزمة النفسية؟ وهل من دورٍ للخطاب الديني الموظّف في هذه الردة؟ وكيف بدل الاستبداد ثوبه وتلبّس بالانسانوية، وأين هي من إنسانية الإسلام القيمية؟ وهل الغرب المهيمن يجهل حقا أبعاد الإسلام الأصلية وقيمه للفرد والمجتمع وشراكة الحياة، أم يتعمد تجهيل هذه الحقائق وينظر لمصالحه بعيدًا عن ميزان العدالة؟ وما الجامع بين فلسفة الإسلام الاجتماعية وبين قيم اليسار العدلية؟ كل هذه الأسئلة فُتحت ودار حولها الكاتب محفّزا الأفق البحثي لدراسة هذه العلاقات وبسط خطاب التدين وخطاب الفكر وخطاب المجتمع وخطاب السياسة لطاولة المكاشفة، وتحرير التشابك لتنقية الإسلام وفلسفته الاجتماعية وتجديد وعيه.
مثل هكذا كتابات تحتاج للمُدارسة وتفتح أبواب الجدل المعرفي، وتتشبع بمثلها أو بما يصادمها؛ إنها وقود العقل للحركة والإنتاج.. إنها في سبيل التنوير.