مهنا الحبيل

في فاجعتي زلزال مراكش بالمغرب وإعصار درنة بليبيا، كانت الصدمة أكبر من أن تحتوى، والحزن عظيم ومتجدد، وقد كان مقارباً لفاجعة وزلزال سوريا وتركيا، فأنت تتحدث عن عشرات الآلاف الذين ذهبوا من هذه الدنيا، في أيام قليلة وغالبيتهم في ساعات محدودة، ودوران الأحداث الطبيعية التي يؤمن بقدريتها المسلمون، ترددت على هذا الكون المنظور في عدة حقب زمنية، ذهبت فيها أمم.

       غير أن معصرة القلب كانت قاسية عنيفة على المشاعر، مهما سعى المرأ للتغافل، وإن كان ما يسمى بزمن التفاهة وعالمها الصاخب، حاضرٌ أيضاً لم يتوقف عن ضجيجه ولم يعتبر بالمأساة، ولم توقف عجلته المال العبثي، وتوجهه لمصلحة الإنسان وغوثه، وكان لصورة ضحايا الناس والأحياء والمباني المجرَّفة بمن فيها، في درنة، وقع الصدمة المشهودة، كما أن الحال واحد بين المغرب وليبيا، حين تَتابع الصور وتُنقل العبرات لمن فقدوا كل أهلهم وذويهم.

       وهناك لوحات تضامن وروح تآزر، وبطولات سجّلها أهل المغرب وليبيا، في مناطق الكوارث ذاتها، أو من هب لنجدتهم من بقية وطنهم، وتستطيع أن تقول بأن الحال في المغرب كان أفضل، في ناحية التجاوب من مركزية الدولة، وخاصة من جهة المخزن، وأن واقع ليبيا المأساوي بسبب الفوضى القائمة منذ الحرب الأهلية بعد الثورة، لا يزال مؤثراً في مآسي الناس اليومية، فضلاً عن الفواجع الكبرى.

       وإن كان للمغرب واقعاً أفضل، غير أن هناك مساحات كُشفت من الفساد وعجز الناس وضعفهم، وقلة حيلتهم، تطرح سؤالاً ابتدائياً عن سبب هذا الفقر والعجز، والذي ساهم بعضه في خلل القدرات، والبنى التأهيلية والتأسيسية في غوث الناس، نعم نجح الجيش في مهمته، ومتابعة الملك فيما شهدناه، لكن هناك ملفات أخرى سمعنا صوتها، في تلك القرى البعيدة الضعيفة، تشير الى دلالات القصور المتراكم من عقود، وتذكّر برسالة الشيخ عبد السلام ياسين إلى الملك الحسن الثاني.

       وهناك روح مغربية مؤكدة، تستطيع أن تقرأها في ايمان المغاربة بالمرجعية الملكية، وبالذات في الرمزية الإسلامية المتأثرة بها، رغم وجود العلمانيات المتعددة، معتدلها ومتشددها، وحقيبة واسعة من الاتجاهات الدينية، الشرعية التراثية والفكرية، فنتوقف هنا عند موقف الشعوب العربية القديم الجديد، من آمال التغيير هل هو مركزي ثوري جمهوري عنيف، وله قسط في دولنا العربية ومنها ليبيا والعراق وسوريا قديماً، أو أن المزاج العربي العام، كل ما كان يرجوه منظومة اصلاح، تضمن له حرية الرأي والمشاركة الشعبية، والحقوق المدنية للحياة مع القيم التي يؤمن بها، والمساواة الاقتصادية.

       وبالتالي كان الموج الربيعي في المغرب، متصلاً بكفاح السلام الاجتماعي الحقوقي لعبد السلام ياسين، والقوى الوطنية منذ الاستقلال، وبمحاولات عبد الكريم بن كيران، لانتزاع مساحة لصالح تلك الحقوق من المخزن، لكنه لم يُترك وقطع الطريق عليه، أليست هذه الطموحات والآمال، كانت ضمن خارطة الربيع العربي كله، أوليس معالجة الفقر الشديد، رغم الكرامة الإيمانية الأبية في نفوس المغاربة، كان مطلباً متقدماً، أولم يكن للمغرب قصة أخرى كان بالإمكان أن تدوّن، تتحول فيه المملكة إلى نظام قانوني ذو شفافية، وحيوية تنموية.

 وأجهزة تنفيذ نزيهة، تحققها حكومات منتخبة، ذات صلاحيات عالية، فيشعر المغربي المهجري، أن له وطنٌ حيوي يحتضنه ويحتضن خبرته واستثماراته، فيفيض على أهله وبلده، ويشارك الشعب في الداخل نهضة نوعية، لم تفكر يوماً في اسقاط الملكية، فمن عطّل هذا المسار ومن منعه من أن يصل قبل وصول الزلزال؟

       ولسنا هنا نتغافل عن دور الملك الإيجابي بعد والده في العفو أو الإطلاق، ولا في عبور موجة الربيع العربي دون دموية، غير أن آمال ذلك الربيع فيما ذكرته آنفاً، لم يتحول إلى ورشة عمل، ولم تتدفق في أركان المغرب وروح الشباب، أنفاس الإصلاح، ولم يُصفّد الفساد فكانت الآلام مشهودة معلومة بين يدي المغاربة، فعادت حمولة الإحباط لتجثم بصدرها.

       وأُذكّر هنا بحكومات الخليج العربية، ونظمها السياسية المتشابهة، ملكية أو أميرية سلطانية، فآمال شعوبها متطابقة، مع شعب المغرب، ومع الإيمان بالسلطة الملكية أو الأميرية رجاء تحقيق الاستقرار، لكن أين ثرواتها وأين سياساتها الإصلاحية، وأين هي تلك المنصات التي يُعبّر فيها الشباب عن رأيهم، ويشاركون في دفعه وحمله في مهرجانات تفوق وتنمية، لا مواسم ترفيه يستحلبها الغرب بلا مكيال، ويتوارى خلفها ضنك الناس الاقتصادي الشرس، والصوت المخنوق للإرادة الشعبية، فهنا قصة تقارب مؤلمة عربية.

       أما في ليبيا فالأمر افدح وأكبر وأكثر ألماً، فالفاجعة هنا عبرت عبر السد، وقصته الكارثية مع الفساد، من زمن القذافي حتى حكومات أو دوائر نفوذ ما بعد الثورة، في طرفي الانقسام الأهلي، لقد ترك القذافي ليبيا قاعاً صفصفاً من البنية التحتية، وبعثر ثروة الشعب في وهم ثورته الحمقاء، وحياته الدموية الاستبدادية، ومع تلك الروح الأصيلة التي تراها في فزعة الليبيين وإيمانيّاتهم، التي صمدت قبل وبعد الثورة في حقوقهم وفي قيمهم، إلا أن ارث القذافي والثقافة التي خلّفها، في الصراع والانقسام الاجتماعي، عادت لتضرب ما بعد الثورة.

       فهل هذا يُسقط مسؤولية من جاء بعد الثورة، من كِلا الطرفين؟

       نقول بكل ثقة كلّا..

إن شواهد الفساد وخاصة في عدم ترميم السد، بل وحتى في انشاء مدينة ونقل الأحياء إليها، في منطقة آمنة، أو على الأقل التوجيه الاحتياطي لفيضان المياه، مع تدعيم السد، وصولاً إلى الفوضى التي تزامنت مع الساعات الأولى في توجيه الناس، كل ذلك فادح المأساة.

فلم يفر الفاسدون من قدر الله الى قدر الله، كما قال عمر رضي الله عنه، ولكنهم فروا الى ثروة الفقراء والمضطرين، فهدموا بسرقتهم السد، فسقط الضحايا قبل وصول الربيع، الربيع الذي ضيعه أعداء الثورة وبعض أهلها.