فِرية المستشرقين أم قرآن النبيّين؟

مهنا الحبيل

لقد انتخب مالك بن نبي في آخر ظاهرته القرآنية، وثيقة تاريخية دامغة، تضمن الفارق الضخم اللامحدود، بين القرآن وبين سرديات العهد القديم، المحرفة بالطبع، لكنه تحريف لا يُلغي علم اليقين، بأن هناك قصص ثابتة من تاريخ العالم، وأنبياء كُثر وردت قصصهم في الكتب المقدسة للديانات، تزامنت مع أحداث تاريخية وصراعات شنتها الإمبراطورية الرومانية، بين عهديها الوثني في مواجهة المسيح وحوارييه، ثم المسيحي في مواجهة اليهود، وفي قصص بني إسرائيل ذاتهم.

 وهي ليست حكايات عارضة منبتة عن التاريخ الديمغرافي للأرض، ولكنها موثقة في حفريات الكوكب، وفي رسوم الكنائس، وفي تاريخ الطقوس، التي ترمز لحقب تاريخية تؤكد علاقة السماء بالأرض، وعلاقة الأنبياء بإخراج العالم القديم، من خرافة الوثن وعبادة الفرج واستباحة المحارم، وبحرب النبوات على حراس الرأسمالية الجشعة القديمة، والقوة الاستعبادية العميقة.

       ومواجهتهم عليهم السلام لمن يُسخّر المال للباطل كما فساد بني إسرائيل، ومن قتل الأنبياء حتى السُخرة في أجساد الناس وأملاكهم، كما يوثق القرآن ذاته، رحلة العذاب لبني إسرائيل ومظالمهم أمام الطغاة من فراعنة أو نصارى متشددين.

       كيف تمكن هذا القرآن من إعادة عرض تاريخ العالم القديم، وكيف أُبلغ حملة الرسالة الأوائل العرب، عن تلك اليقينيات الكبرى، لولا أنهُ وحيٌ من خالق عليم؟ ولم يكن للأرض وقتها، لو اجتمعت علومها وفلاسفتها، من كتابة جزء منه، بل ولا سورة وآية تعرض ذالك القصص العظيم.

 هنا اختار مالك بن نبي أن يقدم (presentation) عرضا تصويرياً، لقصة القرآن حرفاً ومعنىً بين إرث أهل الكتاب وبين صريح القرآن، لقد مثّل الجدول الذي عرضه مالك بن نبي لقصة سيدنا يوسف عليه السلام، ظاهرة صدمة لا يمكن لأحدٍ إلا أن يَخضع لمعاييرها القوية الجلية، فعرض للقصة وأحداثها، في أسفار بني إسرائيل المشتركة مع النسخ المحرفة من الإنجيل، وعرض القصة القرآنية أمامها.

       هنا الدهشة تأخذ كل إنسان عرف العربية، أو تعلمها، أو أدرك ترجمة صريحة دقيقة بين القصتين، فهنا ترادف وحبكة أحداث وعلم نفوس، وحديث أرواح وتحرير حقائق بين البئر والسجن والقصر، وتحرير معجزٍ لحديث النفس بين يوسف واخوته، وبين السجناء والحاشية، وبين عُمّالَ يوسف في متاعهم ورحال أخوة يوسف، تُطرق السمع لها وأنت منبهر، من هذه القصة الكونية في تاريخ العالم، وفي حجم الأدب المقدس في القرآن الكريم، وفي دقة الدقة لما يُجمل فضلاً عما يُفصّل.

       أما في الجانب الآخر للعهد القديم، فهنا بعض حقائق مشتركة، لكنها وُضعت في قصة مهلهلة مسيئة التعبير في حق يوسف وغيره، مستخدمة ألفاظاً وتعبيرات لا يمكن أن تصدر من مقام الألوهية، وتجد هناك فراغات حاول الراوي أن يجمع فيها بين الإثارة، وبين تعقب زوايا القصة، ذات الأبعاد المختلفة.

والتي أعجز فيها القرآن قدرة العقل البشري، بخطاب يتجاوز الزمان والمكان، فأين ذالك المسرح في البدو الذين قدموا من قرية يوسف، مع رواق زوجة العزيز وصويحباتها، وأين ضمير يوسف في السجن، مع مؤامرة النفس في ضمير اخوته، وأين مجلس الملك من قصة السجين المعبرة الدقيقة لرؤياه بين صاحبي السجن، حديث بلاغي عظيم يأخذ بروعك، وأنت تتقاطر عليك الفاظه وحقائقه، وتردد دون برمجة، إنها كلمات ربي.

       لقد اكتفى مالك بن نبي بهذا العرض المشترك للنموذجين، وهو هنا يُسقط الكذبة التاريخية للمستشرقين، ثم يُعيد النظر العقلي المجرد، إلى حوار التاريخ والدين، بين الأسطورة وبين اليقين الذي أُنزل على سيد المرسلين، ليس وعظاً، ولكنه بلاغٌ يدركه الأعرابي والمستشرق، وكل عالمٍ أو عابد أو منقطع في صومعته، أو متسائل في شكوكه، أين كلمة السر في علاقة العالم القديم بالنبوات، ولماذا تُسقط وحدتهم وحقيقة يقينهم، لأجل مصالح المفسدين من المتدينين المزيفين أو من المستبدين الظالمين أو من الملحدين الجاهلين.

لكن المستشرقين ومن قبلهم وبعدهم، مشغولين بمهمة التزييف (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) أما الله فهو يدعوا العالم كله قديمه وجديده لأجل هدايتهم ورحمتهم به، ولذلك يقص احسن القصص، ليس للمتعة الأدبية، ولكن للفت الروح الباحثة عن الحقيقة الكبرى في الظاهرة القرآنية (نحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)، والغريب أن هذه الآية جاءت في سورة يوسف عليه السلام.

 فمن كسب معركة الحق الأخيرة، مشروع باريس لإسقاط القرآن أم كفاح مالك بن نبي في بلاغ الإنسان والإيمان؟