المقعد”11C”

مهنا الحبيل

11/7/2018

كانت الطائرة على وشك الإقلاع، وعامر يستعد للتنقل من محطة إلى محطة أخرى، الخواطر تعتلج في ذاكرته وأحاسيس وجدانه ومشاعره بين التوتر والطمأنينة برعاية السماء، هكذا كان عهده مع سماء الله..
أين ستقف به المحطة المقبلة، إلى أين يتجه في ظل سفره المضطرب.
هل سفره مضطرب؟ نعم!
كان عامر طريدًا سياسيًا، يخطو خطواته الأولى، للسعي إلى مهجرٍ مستقر في ظل إشكالات الشرق، ورياح الحروب وأزمات الصراع، وانتصارات المستبدين الداخليين والخارجيين.
تاهت راحلة عامر.. لم تته في مبدئها ولكنها تاهت في محطّاتها..
أين أيها الغريب.. وكيف تحتضنك محطة الشرق الجديد؟
هو عائدٌ اليوم إلى إسطنبول..
يا لها من مدينةٍ ساحرة..
يا للعشق..
إسطنبول الشرق، في وجدان عامر، لها لوحة خاصة..
لها لحن رائع وذوق جمالي، ربما لا يمثله شيء كما تزدحم الزهور والورود في أبريل، حينما تشرق إسطنبول في ربيعها المذهل ومسرح الجمال في جولهانة بارك
ولكن لإسطنبول وجه آخر يقسو بعض الشيء.. لا.. بل يقسو كل الشيء..
يضحك عامر في وجدانه وتبتسم شفتاه، ابتسامة حزينة..
الله لو يعلم العاشقون يا إسطنبول..
بقصة الدولار الكبير في عرف إسطنبول، الذي يُعبد في بازار رجاله..
فإسطنبول للمهاجر الغريب، للطريد السياسي بلد حيوي متفاعل لا يعرف كيف تمسي حقيبته يومًا في قبضة يده، أن يكون صاحب قضية أم يكون صاحب الحقيبة في قبضة قومٍ آخرين
اليوم هو عائد.. من محطته الأوروبية ورحلته الفكرية يعود في ذات الطائرة
في الطيران التركي وعند ازدحام اخوته الأتراك أو الشرقيين أو أبناء الغرب..
عاد بحقيبته مرة أخرى يدحرجها، إلى حيث يجلس في رحلته القادمة، ولاتزال الأفكار والخواطر تتقاطع في ذهنه وفي عقله وفي رؤى مستقبله الغريب، أيها الغريب إلى أين يأخذك هذا الطائر من جديد؟
خلال رفعه للحقيبة، في خزانة الحقائب كانت ثقيلة بعض الشيء، ومع تغرّبه وآلام الحياة والكفاح، كان يعاني عامر ألمًا في الظهر.
لعل أحد الملاحين من مضيفات الطائرة التركية، اقتربت منه، ساعدته ولكن مع المساعدة كانت هناك ابتسامة!
شكرها وابتسم لاقته بعينيها الجميلتين مرة أخرى.. ثم انصرفت..
جلس عامر على المقعد وضحك، كأن صاحبه الذي بجانبه في طرف المقعد الآخر يستغرب ما لعامر يضحك؟
يا لها من قصة يا إسطنبول وما دخل إسطنبول بهذه المسألة عامر سكت وسكتت ابتسامته.
انطلقت الرحلة، وقلّب صفحات كتابه المختار، قرأ منه صفحات ثم عرّج على موسيقى الشرق، كان يشعر دائمًا بأن للشرق موسيقاه المختلفة، ربما أقرب للروح أقرب للوجدان، أقرب لدفق الماء أقرب لحراك الطبيعة، من ضجيج الطبول..
لم يكن عامر يحب ذلك الضجيج
كل الضجيج..
ضجيج سلاسل الزبانية، التي تقترب من أيدي الأحرار، أو ضجيج طبول البروبوغندا، التي تسيطر على الشرق، فتخطف الفكرة بقرع الصوت المؤذي، أو ضجيج موسيقى الغرب الحديثة.
غادر الموسيقى ثم استعرض الأفلام التي تعرضها هوليوود، كعادته يسعى لفهم الفكرة في هذه الأفلام أكانت تاريخية أو اجتماعية..
ربما كان مزاجه يتحول إلى هذه المسألة، كل ما مازحه أصدقاؤه.. ألا تترك الفكر يا رجل ألا تعيش لحظات الدراما.. حتى الأفلام؟
قال صديقه:
«عندما عدت لرؤيتها أيها الكاتب الشيخ، عدت تنظر إليها بمنظار الفكر».
قلّب عامر قائمة الأفلام وتوقف كثيرًا عند آسيا الهندية والأفارقة الأميركيين..
يطالع تلك الحكايات يبحث عن المؤاخاة الإنسانية المفقودة رغم صخب المتاجرة باسمها..
غير أن المشكلة الكبرى التي أدركها عامر، أن للغرب مبادئ وقيمًا نجحوا في طرحها، ربما نجحت داخلهم، غير أنها ليست، ولم تطبق كقيم مشتركة للإنسانية الكبرى، وتاهت في فهم معادلة الروح والعقل، فانقطع بهم الدرب..
وهنا أزمة الشرق في رحلة الغرب.
مع أن عامر يُشرق بهذه الأفكار.. ضحك من نفسه ومن أحاديثها.
قطع فكر عامر، مرور الحسناء التركية مرة أخرى، لم يكن له حاجة ولم تكن لها حاجة، غير أن عيونهما التقت من جديد..
لا يعرف هذه البصمة، هل تعني شيئًا في ملاقاة العينين؟
أم أنه يبالغ ويسرف في المبالغة، لوحشة الغربة على الطريد السياسي المهاجر..
ضحك مرة أخرى ابتسامة خفيفة تحاشى معها، أن يلتفت له رفاق الرحلة،
حين قام إلى آخر الطائرة ليغسل يديه، بعد أن أنهى طعامه، وعند آخر مقعد كانت تلك الحسناء جالسة في زاوية الملاحين..
قامت إليه، فبهرته اللحظة، وصاح في وجدانه:
إنما يؤم وجهي إليك، كما يؤم الناظر للقمر، أيّها القمر لا تسل عن إبهار طلعتك لقلب الغريب
هذه المرة بات شجاعًا أكثر فالتفت إليها، وقد أشرقت من جديد بحسنها وجمالها وابتسامتها..
الإنجليزية التي يحسن شيئًا منها شجعته أن يخاطب هذا الملاح الجميل:
– كيف أنت؟
أجابت وهي تقترب منه..
تبادلا الحديث، سألها من أي بلاد الأناضول أنت؟
قالت: قونية..
اندهش وجهه وضجّت معالمه وضحك..
قالت: لماذا تضحك؟
قال: قونية، بلد صديقي، وأحبُ قونية وأحب أصدقاء الأناضول، لكنكم في إسطنبول اتعبتمونا بغياب هذه الابتسامة.. إذن ما نعانيه من غياب بسمة إسطنبول، وبأسها على الغرباء ليس عهدًا أناضوليًا؟
– بكل تأكيد.. بكل تأكيد، رددت
– ومن أي قونية أنت؟
– من الريف
قال يا له من جمال، أن تكون طبيعة تلك الأرض، وذلك العهد التاريخي الكبير، ومع ذلك أرى فيك هذه الابتسامة.
شعر عامر بأن هذه اللحظات، من أجمل اللحظات التي مرّت عليه في عهد غربته تحمّس وتحدث.. وتحدث، ليس من مدمنيّ مسلسل ارطغرل ولا المفتونين به، ولكن عرّج عليه ليطول الكلام مع الغرام
ثم عاد لمقعده..
قبل الهبوط عبرت الحسناء بجوار مقعده.. تبادلا البسمات وسعى أن يوجد سبباً لا وجود له..
فذهب بالقرب من مقعد الانتظار ثم نظر إليها وودعها وقال لها مائدتك جميلة..
قالت: لم أقدّم شيئًا، هذه مائدة الطيران التركي.
قال لها: كلا، مائدة ابتسامتك كانت أجمل من كل هذه الوجبات،
لا أدري.. لا أظن أن يجمعنا الدهر مرة أخرى (اردفها ب يا حبيبتي ولم تنطق بها شفتاه) غير أنني سعيد بالتقائك، جمع تلك الكلمات، حوّلها من قاموسه العربي إلى الأعجمي ثم تدفقت منه، ربما لدفق المشاعر وانصرف وعاد يبتسم من جديد..
أيها الغريب إلى أي شطآن الخيال تأخذك هذه الرحلات؟
أفِق… هيّا أفِق
لست في وارد هذه الرومانسيات وهذه الأحاديث الجميلة، نزل عامر وهو يفكر في كاونتر الجوازات من جديد، هل سيختمه الضابط، أم سيسأل ويدقق ويحيله للمكتب المناوب، أم سيتوقف، ماذا عسى أن يجد في جهازه الأمني المربوط بإدارة المخابرات..
مضى الأمر سريعًا فتنفس عامر، ودخل إلى صالة المطار، سحب حقيبته وانتقل إلى شقة مهجره، وهو يقلّب الفكر ويستعد لرحلة المهجر الآخر..
بعد أن كرر أصدقاؤه عليه دائماً:
المكان الثالث يا عامر لابد لك من المكان الثالث..
فيما يستقر عامر نحو شقة مهجره، جلست حليمة تفكر في مقعدها، حدثها أصدقاؤها الملاحون، إلا أن حليمة باتت تراجع تلك الصورة، الأسمر العربي.. ماذا تعني لها كلمات عابرة معه
غير أنها تراوح نفسها بأن شيئاً من العهد قد وقع بين الأناضولية الحسناء ومهاجر الخليج الأسمر، هل هو بدوي..
كان يمازحها بأنه يتأرجح بين الحاضرة والبادية، بين الريف والصحراء، بين النخلة والرمل والبحر، تلك هي دياره التي يعشقها ويعشق أرضها وروحها، وما قرار الهجرة إلا ليُكافح من أجلها ومن أجل الفكر الحر
حليمة، قال لها ممازحاً هل أنت السلطانة حليمة، كما يرددن في مسلسل ارطغرل..
تذكرت هذه الكلمات التي رددها عليها عامر ثم خرجت، مرّت من معبر الجوازات الخاص، ومر عامر في معبر سيارات الأجرة فيما ركبت حليمة الباص المعد لطاقم الملاحين..
هل يبعث القدر رسالة أخرى
كيف التقت نافذة الباص الصغير بنافذة سيارة الأجرة
فالتقت عيونهما.. رفع عامر يده ورفعت حليمة يدها..
تحية عابرة ثم افترق الطريقان، كل ذهب إلى منزله ومقصده.
قال عامر في نفسه: ليت هذه الذاكرة لم تعد، ليتني أعود لبعض الوحشة فأحياناً، بعض مطر السماء حينما يصل القلب الجاف تتعبه مشاعره!
أما حليمة فقد عاد إليها هذا التفكير
انطلقت حليمة وزميلتها تُحدثها وتقول لها: حليمة ما شأنك ما قصتك، ماذا بك ماذا دهاك، هل أنت متعبة؟
كلا.. كلا
هل هناك شيء، هل تلقيتِ اتصالاً؟
كلا.. كلا
ماذا تفكرين به؟
لم أعهدك بهذا الوضع، أنت أكثر حيوية عندما ننهي رحلتنا وننتقل إلى الاستراحة قرب مطار إسطنبول، هل ستذهبين إلى قونية، تزورين الأهل في إجازة الرحلات المجدولة؟
نعم، أظن ذلك..
قالت: حسنًا، لقد اقتربنا من الفندق.
وكان فندق حليمة وطاقم الملاحين قريبًا من المطار، فيأخذون قسطًا من الراحة، ثم ينطلقون بعد ذلك إلى رحلتهم الجديدة أو إلى إجازتهم القصيرة.
سكَن الليل.. لكن مشاعر حليمة لم تسكن..
حاولت النوم.. لكنها لم تنم..
حاولت أن تحرك جهازها يُمنة ويُسرة، بين الأفلام والمسلسلات، أو ربما قصص الأصدقاء والصديقات، في مجموعة الواتساب، الخاصة بالطيران التركي من زملائها أو الخاصة بالأقارب..
غير أن الذهن لايزال مشغولاً.. أين ذهب عقل حليمة.. أين ساقها قلبها.. أيعقل أنه حيث رست تلك الرمال وأثمرت تلك النخيل، فبحثت عن عامر المهاجر الغريب.. ما الذي يشكّله هذا الرجل؟
لا شيء.. لا شيء.. رددت حليمة، ولم يكن حتى في الدرجة الأولى، كان في الدرجة السياحية ولم يبد عليه شيء من الغنى.. أبدًا.. أبدًا.. ولا يبدو وسيمًا كوسامة فتياننا في تركيا!
لماذا أفكر فيه؟
كان جدل حليمة منطقيًا بالكامل.. غير أن مجمر القلب كان له حديث آخر..
بالكاد أدركت حليمة النوم، ونزلت متأخرة على الإفطار الصباحي وكان زميلاتها وزملاؤها ينتظرونها فحادثتهم وحادثوها قبل انصرافهم وباتت من جديد وحيدة على طاولة الإفطار..
حركت برنامج البحث للرحلة الداخلية، بين إسطنبول وقونية للعودة إلى أهلها، في إجازة مقبلة عليهم، ثم قلّبت حليمة رحلات الحجز، تختار رحلة من إسطنبول إلى قونية ثم تلغيها.. تحذفها من جديد لماذا.. لا تعرف!
قالت: حسنًا، سأذهب لأخرج من هذا الحصار الذي فرضه هذا العربي الأسمر، أخذت حليمة حقيبتها الصغيرة إلى حيث يلتقي عشاق إسطنبول مع البسفور.. إنها امينونو.
وفي الساحل المطلّ بين الجزء الآسيوي والأوروبي، كان طائر النورس يرفرف للناس زرافات.. تعانق الفتاة فتاها وتتحدث الطيور بينهما بقصص الحب.
لا تدري حليمة، هل هي خرجت من حصار عامر العربي، أم أنها تزداد وقوعًا فيه!
انصرفت من جديد وعامر لايزال يعلو في وجدانها!
تحوّلت بسيارة الأجرة مرة أخرى إلى الفندق، وجدت رفاقها يهمّون بالخروج، كل إلى طريقه حيث مسكنه في إسطنبول أو إحدى المدن التركية حتى يستكمل رحلته المقبلة بعد الإجازة القصيرة.. غير أن حليمة قررت التمديد..
وقعت في عقلها خاطرة جديدة، لا تدري كيف.. ولماذا؟
إنما استجابت لهذه الخاطرة!
بعد أن جددت حليمة في الفندق، وعلى حسابها الشخصي مع الحصول على الخصم الذي تمنحه الخطوط التركية لملّاحيها،
انطلقت حليمة للمبنى المركزي لحجوزات الطيران التركي، في الطريق كلمّت صديقتها آواز
كيف حالك آواز.. كيف أنت؟
– أهلا حليمة..
العهد قديم.. أنا مشتاقة إليك..
– وأنا أيضًا.. إنني قادمة إليك..
هل تقولين الصدق، أنا الآن في وقت العمل في الحجز المركزي..
– قالت، نعم أريد أن ألتقيك في صالة المركز..
حسنًا.. إذن سنتوجه إلى المقهى سويًا.
أهلًا حليمة.. التقتا.. تحدثتا بعض الشيء.. لكن صديقتها شعرت أن هناك قصة أخرى أتت بها إلى هنا:
حليمة هل لكِ أمر؟
– نعم.. أجابت حليمة
تحتاجين إلى المساعدة؟
– لعلّي..
تفضّلي..
– أريد أن أبحث عن عنوان راكب، كان معنا في آخر رحلة من روما..
هل فعل لك شيئًا.. أتحبين أن نبلّغ السلطات.. سيأتون به على الفور..
– قالت: لا لا الأمر ليس كذلك
ما هو؟
– أريد أن أصل إليه..
لماذا، هل تعرفينه؟
– لا.. لا أعرفه..
وإذن؟
– ارتبكت حليمة.. ثم استحضرت مخرجًا، فأجابت على الفور:
ترك عندي أمانة.. ونسيها.
حسنًا، اتصلي بالزملاء في قسم المفقودات وسيتصلون به..
– لا.. أُفضّل أن أحملها إليه بنفسي.
شعرت آواز أن للقصة ما وراءها:
حسنًا، وكيف أخدمك؟
– أنا أعرف رقم مقعده..
ثمّ ماذا؟
– لا شيء..
اسمه؟
– عَمر.. عُمر..
لم تستطع حليمة تذكّر اسم عامر:
لستِ متأكدة من اسمه؟
– لا لستُ متأكدة..
ما رقم مقعده؟
– 11C.
ذهبت آواز إلى أحد المكاتب بصحبة حليمة، وقالت: اجلسي هنا، وجلست إلى الجهاز.. ووصلت إلى رقم المقعد 11C!
اسمه عامر.. إنه عربي..
– نعم، إنه عربي..
هذا اسمه، عامر عبدالله، ماذا تريدين؟
– هاتف أو بريد إلكتروني..
عنده بريد إلكتروني.
كأنما أُهديت حليمة جائزة من السماء..
قالت: هذا جيد.. هذا جيد
أتريدين أن نبعث له شيئًا؟
– لا.. لا أريد، أعطيني البريد فقط آواز..
.. هل أنت متأكدة منه، كانت تردد..
نعم هو، وعلى وجهها ابتسامة.
سارعت حليمة بالخروج ووقفت عند أول مقهى لترتب أفكارها، ثم سألت نفسها ماذا عليّ أن أفعل.. أراسله؟
فلأفعلها.. هيّا..
نسخت البريد من جهازها، ثم فتحت بريدها وكتبت له:
أيها العربي الأسمر، ابتسامة تركية تحييك من جديد.. هنا حليمة.. هل من أحد؟
وكانت الابتسامة والفرح تملأ جوانبها وهي لا تعرف، غير أن ذلك تبدد كله..
لحظات ويعود لها الإيميل.. بريدٌ خاطئ
بريدٌ خاطئ؟ لماذا؟ كيف اعتمد الحجز على بريدٍ خاطئ
ترددت حليمة في العودة إلى صديقتها آواز، وقالت ربما هذا من حسن حظّي، لأطوي صفحة صديقي العربي وأنطلق لرحلتي.
رَحلت حليمة بالفعل وأنجزت رحلتها وسافرت إلى قونية، ولكن القصة لم تنته..
عندما وصلت إلى قونية البلدة، حيث انتقل أهلها من الريف منذ سنوات، وكان الحي قريبًا من تلة قونية الشهيرة، وحينما عبرت عند تلة علاء الدين..
في الطريق وجدت وجه عامر من جديد..
لماذا تعود إليّ صورته.. مخيلته..
– أهاا..
كان يحدثني عن رحلته إلى صديقه، عندما كان يذهب به إلى تلّة السلاجقة ومسجد علاء الدين..
– يا الله.. رددت حليمة كيف أنسى هذا الوهم الكبير.. وهمٌ لا يمثّل أيّ شيء!
بالكاد أنهت حليمة رحلتها مع الأهل، كانت بنصف عقل ونصف قلب، ثم استأنفت رحلتها المقبلة إلى محطةٍ جديدة.
كان التفكير لايزال يراودها، وعادت بالفعل، وعندما استقرت بإسطنبول، عادت إلى صديقتها من جديد:
– آواز أريد أن آتي إليك..
أهلاً وسهلاً، ألم تجدي صديقك العربي؟ قالتها وهي تضحك..
– كلا..
لماذا.
– البريد قال إنه خاطئ..
حسنًا.. حسنًا تعالي.
وعاد البحث من جديد عن عامر.. وجدوا هذه المرة أن لعامر رقمًا في خدمة الخطوط التركية التي تُقدّم لجمع الأميال للركاب المسافرين.
ووجدوا نفس البريد الخاطئ، يبدو أن عامر أو الموظفة قد نقلوا البريد بصورة خاطئة..
غير أن المعلومات تضمنت هذه المرة رقم هاتف عامر.
بالفعل استخرجت آواز الرقم لحليمة، ثم قالت: احذري من أولئك العرب، لا تندفعي، أنتِ لا تعرفين ظروف هؤلاء، هم إخوتنا ولكن تعلمين ما يدور من أحداث وحروب، لا تتورطي يا حليمة هل فهمتني؟
تشير آواز إلى ظروف سياسية وعسكرية، ولكن أيضاً إلى حجم القسوة الاجتماعية بين العرب والأتراك، التي تخف وتصعد، ولم يعالجها عهد سابق ولا لاحق.. رغم حسن النوايا.
– نعم.. نعم فهمتك، شكرًا لك آواز
تنهدت آواز وهي تنظر إلى حليمة وهي تخرج، وقالت:
«للسياسة أحكام، وللشعوب أعراف، وللحب طقوس مجنونة»..
وضحكت: الله يرعاك يا حليمة
خرجت حليمة وهي تشعر بنشوة وسعادة ولكن بقلق!
أخذت الرقم، حفظته في جهازها، وعندما ثبتته باسم العربي عامر، عادت إلى خانة «الواتساب».. ففتحته ولم تبادر بالاتصال.. فوجدت صورة عامر..
هو ذاته، هذا هو الوجه الذي التقيته في مقعد 11C..
كتبت سطرًا واحدًا، والجميل أن المشترك بين العرب والأتراك «السلام عليكم» فمن السهولة أن يقرأ العربي الكلمة بالتركية أو الإنجليزية
كتبتها وانتظرت برهة؛ حيث كان وميض «الواتس» يُضئ في جهاز عامر
وعامر تحت هواجس التفكير.. ربما هواجس حليمة كانت تمر عليه، لكن هاجس التفكير والبحث عن المأمن الكبير لقلمه المكافح يهيمن أكثر من أي أمرٍ آخر.
انتبه أن هذا الرقم غير محفوظ، فتح الرسالة، وقرأ السلام عليكم، وقَبل الرد، عاد إلى الصورة فتحها..
ثمّ قال بصورة عفوية: الله.. الله أكبر.. هذه حليمة..
أعاد النظر إلى الصورة مرة أخرى، وهو يردد:
كيف بعثت حليمة إليّ، كيف عرفت رقمي؟
وفتح الرد وسجّل صوتيًا: وعليكم السلام، هل أنت حليمة؟
حليمة كانت تراقب تلك العلامة الزرقاء، التي تدل على أن المستقبِل قرأ رسالتها، وجلست تنتظر الرد..
فجاءها الصوت، ذلك الصوت الذي سمعته في السماء، في رحلة روما- إسطنبول
_ أجابت: نعم.
فورًا اتصل عامر عليها مباشرة، حيّاها وحيّته
كيف أنتِ يا حليمة؟
– جيدة، وأنت؟
– جيد..
هل ممكن أن نلتقي؟
– بكل سرور، رد عامر وهو لا يدري ما القصة: ما الموضوع، أين؟
أين تسكن.
– مكاني بعيد في إسطنبول، ولكن يمكن أن نلتقي بالقرب من المطار
– هذا جيد.
كانت اللقيا في «يني بوسنا»، حيّ لاسمه وقع لدى عامر،
في أحد المقاهي الشهيرة من فروع فاروق أوغلوا في يني بوسنا، كان الموعد
ولأن يني بوسنا تحكي قصة النضال الأوروبي الإسلامي، للحريات الإنسانية في رحلة المفكر العظيم علي عزت بيجوفيتش، كان عامر يُحب هذا الاسم ويطرب لوقعه وقصة احتضان الأتراك لكفاح البوسنيين.
تواعدا في صبيحة اليوم التالي حيث الإجازة القصيرة جدًا لحليمة.
كان اللقاء مفعمًا بالمشاعر لكن يا ويح قلبينا، يقول عامر، وهو مقبل على المقهى.. هل كلمتني حليمة لهذا الهاجس، أم أنك تعيش في وهمٍ كبير! لعل الخطوط التركية كلفتها بأمر.. طلبت منها شيئًا.. هل تصرفتُ تصرفًا غير جيد.. هل نسيت شيئًا.. لا يعرف عامر!
اقترب من المقهى، حاول أن يسبق الموعد ليقوم بالذوقيات المطلوبة، فجاءه النادل.. وهو يقول في نفسه:
فلتبتسم اليوم.. ابتسم أيها الصديق.. فلتبتسم إسطنبول اليوم لأجل حليمة التي سألتقيها
وفعلاً كان حظّه وفأله جيدًا، ابتسم له نادل إسطنبول..
فقال له عامر: لطفًا أمهلني بعض الوقت فأنا أنتظر صديقتي..
قال: بكل سرور، وانصرف النادل
وما هي إلا لحظات وعامر يُقلّب طرفه في بهو المقهى، حتى خرجت تلك الحسناء كما يخرج القمر في قلب السماء،
بات القلب يخفق دون مقدمات نهض عامر وحيّا حليمة، وقبل أن يجلسا يقول عامر: يقولون إن المضيفات يتزيّن بالمكياج ويبدين في غاية حسنهنّ الذي ربما يفوق حسنهن الحقيقي فما قصتك يا حليمة يبدو حسنك أجمل فأجمل..
فبدت على وجنتيها حُمرة وابتسمت.. لكنه الحرج اللذيذ في عيني عامر..
جلسا إلى بعض، والغريب أنّ لا عامر ولا حليمة، سألا بعضهما لماذا نلتقي؟
ما الذي حملك يا حليمة على طلب اللقاء؟ لم يسألها عامر..
ولم تقل له حليمة، لماذا طلبت اللقاء!
كانت الأحاديث تتهادى بينهما، والابتسامات والضحكات، كأنما هو عهد العشّاق المخضرم..
حدّثها، شيئًا من قصته وشيئًا من بيئته وشيئًا من فكره وحدثته هي كذلك، حدّثها عن الأرشيف الثقافي الذي يحمله من أصدقائه عن تركيا، وبادلته بعقلٍ مثقف.
الجميل أن حليمة بالنسبة لعامر كان لها توجهها المستقل، كانت مؤمنة ولم تكن إسلامية، كانت تؤمن بالمدنية ولم تكن علمانية، كان هذا إرثًا مشتركًا بينهما، رغم العقل التركي ورغم العقل العربي
اكتشف في حليمة زاوية ثقافية كان يبحث عنها منذ زمن ويتتالى الحديث تلو الحديث وإذا بهما اكتشفا أن النادل يقف بقربهما ثم يذهب وهما لم يطلبا بعد،
يا الله.. مضت ساعة من الزمن ولم يحرك عامر الإشارة للنادل،
فورًا اعتذر منه عامر، وقال لها تفضلي وجبة الغداء التي تحبينها
قالت: لا.. لا
رفضت حليمة، وهو يريد أن يُقنع النادل بأنه استوقفه لأنه ينتظر ضيفًا، ولذا لابد أن تكون الوجبة مناسبة لما يُمنّيه هذا النادل،
طلب وجبته ووجبة حليمة المصرّة أنها لا تريد وجبة وإنما شراب خفيف، ومعه كعادة الأتراك يطلبون الشاي، وأخيرًا رضخت له «على غير عادتها» مع الآخرين، أن تطلب وجبةً خفيفة..
تحدثا، ورويدًا.. رويدًا وصلت حليمة إلى ساحل عامر..
قال لها: حليمة، أنا أُرتب لسفرٍ طويل
علت الدهشة حليمة وشيء من الحزن: «سفرٌ طويل».. لماذا؟
قال: حليمة، أولًا اسمحي لي، أنا سعيد بهذا الموعد ولكنني لا أعرف، لماذا طلبتني، هل هناك مشكلة مع الطيران التركي، هل هناك شكوى؟
قالت: لا.. لا أنا التي طلبتك
ولماذا؟
– لا أدري.. لكن أحببت أن ألتقيك..
شعر عامر في لحظتها بعصرِ قلبه.. بدت ملامح الألم على وجهه..
وحليمة تسأل، ما بك: هل يُزعجك ذلك
– كلا.. كلا وهو يقول في نفسه «أتخرج ليلة البدر في عمري حين العزم على الرحيل»
أنا سعيدٌ ومغتبطٌ بهذا اللقاء، شكرًا لك يا حليمة..
– شكرًا لك، لكني لم أفهم ما قصتك ولماذا السفر الطويل؟
بدأ عامر يحكي حكايته، قصة القلم الطريد، والكفاح المعتقل، الذي وجد حريته في مهجره..
حكى عامر قصته وانتقاله وهو المطلوب العربي السياسي..
قال لها ذلك فاستذكرت تحذير آواز،
هل لديك مشاكل في قضية المسلحين؟
ضحك قائلًا: لا.. لا يا حليمة، أنا لدّي سلاح يقولون إنه أقوى من السلاح الناري
ماذا تقصد؟
– القلم..
لم أفهم، ماذا تقصد بالقلم؟
– أنا طريدٌ لأجل قلمي..
بدأت حليمة تفهم فلديها من الثقافة ما يكفي،
إذن أنت تكتب في الحرية والكفاح الديمقراطي؟
– نعم، كيف عرفتِ؟
ضحكت، إنه الأخطر من السلاح الناري على المستبدين.
انطلق عامر سعيدًا بهذه الحسناء، حسناء قونية، والتقائهما الثقافي بعد التقائهما الوجداني..
لكنها عادت من جديد: متى ترحل وإلى أين؟
– حليمة، يجب أن أقدّم شكري الجزيل لبلدك الجميل الذي استضافني هذا الوقت، لكن ظروف البلد الذي تعرفينه، لا يمكن أن يستضيف مثلي أو تمنحه اللجوء السياسي، لذا عزمت أن تكون رحلتي لهذا الغرض ولا أعرف متى أرجع.
هل هذا يعني أننا قد لا نلتقي؟
كان عامر في صدمة ذهول.. هذا هو اللقاء الأول فكيف يكون اللقاء الثاني في الأصل مجدولاً، فضلاً عن أن تُعقد الأماني عليه!
لكنه في ذات الوقت شعر برابطٍ شديد يجذبه إلى حلم حليمة!
ويقول: آهٍ.. يا له من حلم مؤلم!
ليت هذا الحلم يأتي يا حليمة..
أرجو أن نلتقي، لكنني يا «حبيبتي» ثم انتبه يا «حبيبتي» لماذا أقول يا حبيبتي؟ فأكمل وهو يشعر أن الكلمة قد أخذت بلُبّها
– لا أعرف متى.. لا أدري متى.
ثمّ أفرد يديه وكفيه وقال لها، ضعي كفك على كفي.
التصقت أكفهما وأصابعهما، قال: حليمة
قالت: نعم
– سفري قريب، لا أستطيع أن أُؤجله، وحتى لو بقيتُ، بناءً على هذا الوضع، فأنا رجلٌ لا مصلحة للارتباط به،
لكن يا حليمة قد يأذن الله، كما تلتقي أصابعنا اليوم وأكُفنا وخفق قلوبنا أن نلتقي من جديد، وألقى هذه الابتسامة في إسطنبول الساحرة.
بدأت الدموع تتساقط من حليمة، هي تعجب من نفسها وهو يعجب من نفسه..
كيف استطاع البوح بهذه الكلمات في أول لقاء، أين العهد، أين المقدمات، أين التأريخ لا يعرف عامر ولا تعرف حليمة التي بادرها الدمع..
فأعطاها المنديل الذي في جيبه ومسحت الدمع فقال هل أوصلك؟ شعر عامر أن مزيدًا من الوقت سينهك القلبين..
فطلب الفاتورة من النادل، الذي كان يرقبهما، يرقب هذين العشيقين، وهو لا يعرف قصتهما ولا كيف التقيا ودفع الحساب
هل ممكن أن أحتفظ بهذا المنديل معي
هذا المنديل! به دمعي
– أريد هذا الدمع، لهذا الدمع جوهر روح استضيء بها..
قد يأذن الله يا حليمة باللقيا ولو بعد حين، وداعًا يا قمر قونية وداعًا.
تركت المنديل بين يديه، وقد انهمرت أدمعها من جديد وهي متسارعة الخُطى، تنظر لكعب المعلومات الذي طبعته زميلتها وهو يحمل الرقم «11C» عامر عبدالله.. هل نلتقي من جديد؟
النهاية.