مهنا الحبيل

تصدرت انباء تبرأت القضاء السويسري للدكتور طارق رمضان المفكر الإسلامي المعروف، أخبار القنوات والصحف الغربية، بما فيها تلك المشاركة بقسوة في الحملة عليه وخاصة المصادر الفرنسية، الحكم القضائي تعلق برفض دعوى المدعية السيدة برجيت (اسم مستعار) وهي سويسرية دخلت في الإسلام، وكانت على تواصل ثقافي مع رمضان، ولكنها قدمت رواية تزعم فيها اغتصاب رمضان العنيف، المتكرر لها في ليلة واحدة، وهو ما رفضته المحكمة السويسرية، وأعلنت براءة رمضان.

       انفجرت هذه القضية ضمن سلسلة من القضايا الموجهة ضد رمضان في فرنسا، ولقد استأنفت برجيت الحكم السويسري، فيما لا تزال السلطات الفرنسية وعلى مدى خمسة أعوام تدير ملفات اتهام أخرى لطارق رمضان، الذي عومل بحسب ما نقل عنه وبعض المتابعين للقضايا المماثلة بانحياز شرس، في حين سجل رمضان اعترافه بالعلاقات الجنسية غير المشروعة.

       واعتذر عنها وأسف لمن أحبطهم، وهي العلاقات التي استُغلت بحسب روايته، في تحشيد السلطات الأمنية والسياسية الفرنسية، وضُخمت هذه القضايا والشكاوى النسائية التي تم بعضها بالتراضي (الآثم)، وحُولت إلى محاكمة سياسية وإعلامية جرت بالفعل، وأعلنت احكامها لإسقاط رمضان، بغض النظر عن حقيقتها القانونية والجنائية، والتي لا تزال لم تحسم في باريس.

       وأياً كان المصير في جانبه المسيء والمؤلم الذي وقع على أيٍ من النساء، في هذا المضمار الذي أقر به رمضان فهو مرفوض، غير أن هناك قصصاً أخرى نُحلت عليه في ظل هذه المحنة التي تعرض لها، وهي محنة ليس من خلال حبكتها ولكن من خلال التحدي الذي تعرض له طارق رمضان، كمفكر إسلامي له طرح مميز، والضغط الاجتماعي والسياسي الضخم الذي شُن عليه، من مركزية كبرى في الإعلام الغربي، صمدت زوجته الرائعة وبناته في وجهها، يضاف إلى ذلك العنف الإجرائي، الذي واجهه رمضان بين يدي التحقيق الفرنسي، والضغط على مرضه خلال هذه الفترة، ومحاصرته النفسية التي كان لها هدفاً آخر.

  ونحن نتناول هذه القضية من شقين الأول: أن ما أعلنه من شان العلاقات غير الأخلاقية التي تورط بها، وهي مسألة مؤلمة بأن تقع لمثله وإن كانت الخطيئة واردة على الناس والمغفرة مفتوحة لهم نسأل الله العفو والستر للجميع، وهذا يشمل الإسلاميين وغيرهم، لكن هذا لا يعني عدم قبول توبته بالمصطلح الإسلامي أو الاعتذار بالمصطلح الثقافي، وأنه يجب أن يُقضى عليه فكرياً وإنسانياً بحسب هذه التهم.

أما الثاني فهو أن الحملة على طارق رمضان، قديمة ومتجذرة وتبنتها أوساط سياسية، وبرلمانية وثقافية وإعلامية فرنسية وأوربية، رأيتها بنفسي قبل ظهور أي شكوى أو تهمة له، وكانت تُشعَل بسبب الروح التي ضخها في أوساط الشباب المسلم، في فرنسا وسويسرا وبلجيكا، وكانت تتسع في الغرب وبكاريزما صاعدة، تدفع الروح المعنوية للشباب المسلم، من خلال قوة تميّز الفكر الإسلامي ورؤيته الخاصة، بمفهوم التقدم الإنساني، وهو ما مثل لهذه الأوساط الغربية تهديداً، بسبب أثر تلك الروح وقوة تفاعلها، في الشباب المحبط من أجيال المهاجرين.

ورغم أن رمضان كان ينبذ العنف بكل وضوح، ويسير فكره من خلال مؤسسات الدولة الدستورية والمجتمع المدني والشباب الجامعي وغيره، لكن الغيرة والكراهية لأي معادلة قيم يطرحها المسلمون، ترد على المنظومة الغربية بأفق إنساني متين القاعدة، والتأصيل الفلسفي كانت مرفوضة ولا يُسمح لها بأي منصة.

ومع أن هناك إرث ضخم من السلوكيات الشائنة، والاستعباد للبشر في تاريخ فلاسفة الغرب، إلا أن مكانتهم المقدسة وأبواب الاستسقاء منهم مفتوحة لا حد لها، واضرب مثال بقضية ميشيل فوكو في تونس، في تعقبه الصبية لممارسة السادية الجنسية معهم، وإغرائهم بالمال، وفي توقيعه عريضة للبرلمان الفرنسي لتشريع هذه الجريمة، ومع ذلك لم تتعرض مكانته لأي مس، ولا يزال فكره الذي يرتبط في بعضه بسلوكه الجنساني، وسبق أن أوضحت ذلك في كتبي يقرر على الغرب وعلى الشرق.

فطارق رمضان مع ضرورة التكفير الشخصي والبيان الثقافي المتعلق به، له الحق في بقاء مسيرته الفكرية وحضوره في المنابر وأن يُحرر الفكر من سجن الاستغلال البشع، للقوة الغربية غير المنصفة، ولا يعني ذلك تزكية أخطاء احد، ورفعه فوق النقد وعدم تحمله المسؤولية، لكن هذا الخطأ لا يبرر اقصائه، ولا قطع الطريق عن خطاب بلاغه الفكري الإنساني للمنصات العالمية، ولإنسان الجنوب المقيم في الغرب، وأتفهم سبب انصراف الدعم الإسلامي عنه، رغم أنه مثل مسلكاً لا نظير له في الجدال الحضاري مع اوروبا.

       وذلك لخشية المؤسسات الإسلامية والمجتمع المسلم في الغرب، من التأثير على صورة الإسلام، وعلاقة رموز الخطاب الإسلامي بالواقع السياسي الصعب، في ظل تشديدات الإجراءات الأمنية والتضييقيات السياسية والاجتماعية، على مسلمي فرنسا والغرب عموماً، ونجاح التعاون العربي الرسمي في التحريض على الناس ومستقبلهم.

       غير أني أرى أن إسقاط رمضان من منصات الخطاب التناظري، ودوره في إحياء الروح الإسلامية المعتزة بذاتها، المنفتحة على الإنسان الآخر، الرافضة للاستئناف الكولونيالي الشرس، ضرورة ليس لحق رمضان في بقاء فكره وفلسفته تحت المداولة العالمية فقط، ولكن لمهمة وقيادة الخطاب القيمي الجديد بين مسلمي الغرب، وخاصة الشباب الغاضب من أوضاع التهميش.

وهو هنا يقود مهجهم بقوة الفكرة لا بعنف السلوك، ولكن باريس ترفض شراكته الثقافية، وهو دليل أن العقل القوي الحجة، الخارج من مساحات الاحتقان والتطرف، لا ترحب بحضوره فرنسا ولا بقية المعسكر الغربي المتشدد، ولم يكن ذلك الرفض قوة امنية وسياسية فقط، ولكن روح الحصار في معركة رمضان امتدت الى الاكاديمية، وصرخت بقوة في البرلمان حتى قبل الاتهام تنادي بطرده، فهنا الخوف لا علاقة له بالأخلاق، ولكن بقوة البيان الذي يحرر فكرة الإنسان والدين بعيداً عن الطغيان.