مهنا الحبيل
9/8/2022
يربط لي كوان أول خيط انفصال سنغافورة بالفتنة الطائفية، ويتهم بقوة وكثافة أحد ابرز مسؤولي (أمنو) المتورطين في التحريض، ويوثّق ما نشرته الصحافة الملايوية عنه، من تحريض وإثارة تتهم لي كوان وقيادة حزبه بعد نجاحهم الانتخابي، وهو حزب العمل الشعبي بانهم يستهدفون المسلمين المالايويين ويضهدونهم.
وهو ما ينفيه لي كوان ويقدم الدلائل على ضده، من أن سياسات حزبه كانت تحتوي الجميع، هذا الزعيم الذي احتج لي كوان بتطرفه كثيراً في (أمنو) هو السيد جعفر بن محمد البار، وهو شخصية من أصلٍ عربي حضرمي، أشتهر بتنبي خطاب التعبئة الديني والقومي، ويُحمّله لي كوان مسار التحريض على الصينيين الماليزيين، وفي كل الأحوال كانت نتيجة الاحتقان على الأرض (1964-1965)، موجات من المصادمات الشعبية بين الطرفين الملايو والصيني، في سنغافورة والتي امتدت بعد ذلك إلى كولالمبور وسقط فيها ضحايا وتكررت في السبعينات.
يعترف لي كوان نفسه بأن تنكو عبد الرحمن كان حزيناً جداً لهذه الأحداث وبكى ساعتها، وهو يقول أنها أسوء يوم مر على الأمة (المستقلة حديثاً) وأنهُ قال في خطابه بأنكم تعرفون أنني لم أكن مسؤولاً عن هذا الخطاب في إشارة لجعفر البار، ولكن لم يكن تنكو يستطيع إدانته ومعاقبته حزبياً، بسبب الحسابات الصعبة لمخاوف المالايويين من التطرف الآخر.
هنا نعود لموقف مهاتير الذي كان يرد على لي كوان، بأن معالجة الأزمة يكمن في تأهيل المواطنين المالايويين وتنمية قدراتهم، وليس إعلان عجزهم لسحب مساحتهم الدستورية، وتمكين بقية الجماعات المهاجرة، من قرار الدولة السياسي والسيادي، ونحتاج هنا للإشارة إلى الحاجة الماسة للرجوع إلى ملفات ماليزيا، من خارج قصة لي كوان ونسخته من الأرشيف الإنجليزي، والرجوع لكتاب تنكو عبد الرحمن غير المشتهر الذي أشار له لي كوان، وهو بعنوان (نظرة إلى الخلف).
كما أن هناك غموض في تاريخ جناح المالايو من الحزب الشيوعي، وفهم معادلته في الصراع وكفاحه ضد الاحتلال الإنجليزي، وإن كانت سياقات المشهد في ذلك الزمن، تشير إلى قوة نفوذ بكين، واعتمادها على العنصر الصيني الشيوعي، مما ضاعف المخاطر على الملاويين، فالولاء قوي للغاية باعترافات متتابعة من لي كوان، في المجتمع الصيني الماليزي للشيوعية الصينية، وإن كان لي كوان يؤمن بالفكرة اللبرالية المطلقة، المتحدة مع المشروع الغربي الإنجليزي، التي أعطت مساحة لصالح مشروعه المدني.
نشير هنا أيضا إلى فهم الصراع الخطير لكوالالمبور مع الجارة المسلمة الكبرى اندونيسيا، والتي كانت تهدد عبر سوكارنو بالزحف وابتلاع ماليزيا، لقد كان ثوب سوكارنو شيوعياً، لكن الأمة القومية التي اعتمد عليها كانت متداخلة مع المالايو قومياً، وهو ما يعني أن الخطر كان من جار مسلم تحالف مع الشيوعية العالمية ضد الميلاد الجديد، وهو ما جعل خيارات تنكو عبد الرحمن والحراك الوطني الماليزي، تعيشُ ضغطاً شرساً على ميلاد الوطن الجديد.
في هذا الوقت كان لي كوان يتوسع بقوة في مساحة الشعب المالايو ويخترق دوائرهم الانتخابية، وهو يبرر ذلك بأن هذا ضمن مفاهيم ماليزيا للجميع، غير أن مفهوم ماليزيا للجميع لم يكن تحت تفسيرٍ واحد، فتنكو الذي قبل ضغط لي كوان وضم سنغافورة، اعتبر أن المقابل لموقفه الإيجابي يمنحه فرصة كمركز قومي لماليزيا، في الاستثمار في سنغافورة والاستفادة من ضمها في المفاوضات الدولية، كونها جزءً من الأرخبيل المستقل.
وهذا ما وقف ضده لي كوان على الأرض، وهو يبرر ذلك بحقوق سنغافورة لكنه لا يعترف بحقوق المالايو القومية، وخشيتهم من مخاطر التذويب، ولم يتفهم ذلك، لقد كان مشروع لي كوان متحداً تماماً في تقديري مع المشروع الإنجليزي كبديل أفضل، لكن في ذات الوقت لم يكن للتاج البريطاني أن يُغضب الملاويين ويَفقد علاقته معهم، في ظل الزحف الشيوعي، فما هو مشروع لي كوان لماليزيا المختلفة؟
تقوم أفكار لي كوان في نهاية مشروعه، على إلغاء الهوية القومية الأصلية لتاريخ الأرخبيل، وتقدم الصينين الماليزيين ولكن عبر الفكرة اللبرالية، فتكون القوى الشعبية للملايو هي قوة عمل وتشغيل، وتكون ماليزيا الجديدة التي تزحف عبر حزبه وتحالفاته ونشاطه المدني، أمام أخطاء وتخلف النخبة الملايوية، في موقع الصدارة الزاحفة للأغلبية الدستورية، حينها سوف تُحسم ماليزيا خارج الأمة القومية لسكان الأرض، ويُلغى الإسلام كلياً من هوية دولة الأمة، ويُحصر في حقوق تعبد شخصي فقط.
وعندها تتحول ماليزيا إلى مشروع صناعي حديث تقوده أفكار لي كوان، وتقود شركاته قوة الصينيين الماليزيين، وتنحسر مساحة الملايو لتقترب من قوة عمل تشغيلية لا أمة ذات ثقافة، تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين الاستقلال الحضاري الفكري والنهضة الصناعية والتعايش المدني، وهو تعايش قائمٌ اليوم وتنتشر معابد الصينيين والهنود في كل مكان ويَحظر القانون أي مس أو تعدٍ عليهم، لكن هذا ليس كافياً للي كوان، وهنا نشير إلى موقفين مهمين:
1- جواب لي كوان عن مصير ماليزيا الحالية لأحد المسؤولين الإنجليز وقد عرض 3 أمور ستسير لها، كلها مؤشر انهيار لماليزيا الحالية، لم تتحقق وولد مشروع نهضة خلافا لتوقعه.
2- أن تنكو عبد الرحمن مع كل اخطائه التي يثبتها لي كوان، تعامل بإجراءات عملية، لي كوان نفسه كان عاجزاً عنها، أمّنت استقلال سنغافورة سلمياً، وهو الهدف الثاني المهم للي كوان حين عجز عن الهدف الآخر.
كل ذلك لا ينكر تجربة لي كوان الثرية ولا تميزه، لكن ليس من حقه أن يفرض على أمة التخلي عن قيمها ووجودها، مقابل مصالح لبرالية ومعيشية، كما أن ذلك لا يعذر المالايو من اليقظة بعد السبات الطويل، ومواصلة درب النهضة عبر الحرية السياسية وفاعلية الذات المسلمة التي تتعبد الله في النهضة كما في الصلاة.