مهنا الحبيل

24/12/2023

طالما توقفت عند تلك المشاعر الحميمية البسيطة، في رجل الشارع الماليزي، بكل قومياته، لماذا هي تنبسط أمامي فآنس بها في رحلاتي، ماذا تعني لنا هذه الروح المتواضعة الحيوية التي دمجتها التجربة الماليزية، وأين سقطت علاقاتها في التاريخ الإنساني، وهل استفاد العالم من خسارة تطوير هذه التجربة الشرقية، واستبدالها بعالم الأخلاق الإدارية، التي سادت في الغرب فأضحى التعبير عن المشاعر، برتوكولات تنظمها مجمل رؤية الفرد المادوية الحديثة.

 وبالتالي حين عُزل عالم الروح الأخلاقي، باتت سلوكيات الأفراد من خطوط الطيران في كل العالم، إلى آخر نقطة شراء تخضع لهذا العالم الجديد، هل يستفيد الصينيون والهنود وكل عالم آسيا، وبقية أمم الشرق من استنساخنا، لهذه البرتوكولات، وهل هذا يعني أن مجتمعاتنا الآسيوية ليس لديها تاريخ مفجع وصراعات شرسة، وسلوكيات غير إيجابية.

 وحديثي هنا لا يعني مطلقاً، تزكية الحياة الاجتماعية ولا سلوكيات الشعب في ماليزيا بالجملة، فنحن أممٌ وشعوب تتنازعها الطبائع والقيم في كل الشرق، ولكن لماذا لا يكون لنا نموذجاً لا يُلغي حسنات بعض الواجبات الأخلاقية، التي فرضتها عهود التنوير الغربي، ولكن تعيدها إلى أصل الروح الذي يباركها وينميها للإنسان أينما كان.  

افتتحت لقاءاتي عبر الشخصية الاستثنائية التي تعرفت عليها مبكراً، من خلال الشيخ زيدي بن حسين الفقيه الشافعي والقارئ النهم والمفكر المجهول، فقادني توفيق الله لكي يربطني الشيخ زيدي بالدكتور لقمان عبد الله، مفتي ماليزيا، هذا العالم المتمكن من أدوات التشريع الإسلامي ومراحل الفقه، يحمل وعياً ورؤية مقاصدية عالية الفهم والتحرير.

 لكن الجانب الذي طالما شدني في د. لقمان هو تواضعه وحسن اخلاقه، وتبسطه الذي تعجب منه، ولو قلت لأحد في مجلس يجهل فيه أهله اين مفتي ماليزيا لما أشار له، رغم أناقة د. لقمان وجمال مظهره، بسبب أن هذا الرجل المبارك، في غاية التواضع وفي ذروة الاعتناء بجلسائه دون أن يُشعر أحداً بتميزه، وهو مفتي الدولة الفدرالي أي المرجعية الدينية الاستشارية لملك البلاد، ورئيس الحكومة، في حين وبسبب العلاقة الجذرية للمالاويين مع الإسلام، فإن لكل سلطان ولاية شؤوناً دينياً ومفتياً.

 ولكن مهام لقمان عبد الله وتقديراته الفكرية لمقاصد الشريعة الإسلامية، تأخذ اهتماماً بالغ الحساسية في قرارات الدولة، التي تضم تعايشاً دقيقاً ينجح اليوم في تقديم نموذجاً أخلاقياً، سقطت فيه الصين مع مسلميها، وسقطت فيه الهند سقوطاً مدوياً، فيما ستجد هنا رغم كل الصورة المشوهة عن المسلمين، أن الملايو يرابطون في هذا الموقع، بل وتطبيع التعايش في الحياة الاجتماعية، حتى في الولايات التي يحكمها الحزب الإسلامي.

       وهذه نقطة لا تُذكر ولا تُطرح في منصة الحوارات العالمية، رغم نموذجها المدهش وسقوط العديد من الدول فيه، وبالطبع هذا الأمر ليس عفوياً، ولكن كالمعتاد، في قوة الهيمنة الغربية على العالم، سواء في منصات الدول الكبرى أو في رواقها الأكاديمي، فنموذج النجاح الإسلامي يدفن في جدل الإنسان الحديث، كما أن نماذج الإبادة والتوحش للغرب ولضلعه الوظيفي في فلسطين المحتلة وما قبلها، يُدعم ويقدم كنموذج تقدمي، وهو من أسوء ما عرفه التاريخ للبغي الإرهابي.

       كانت حفاوة الأخوة في جمعية علماء ماليزيا، بسمة أمل ومشاعر روح حملتني بكل حب، فمع حضور د. لقمان وهو أحد أعضاء الجمعية، تشرفت بالعالم الجليل المتواضع، والذي أكرمني باصطحابي لمسجد (حَسَنة) في باني الجديدة في ضواحي العاصمة، وهو الشيخ الحضرمي الأصل داتو محمد بن حاج عبد الله، قاضي قضاة كوالالمبور الأسبق، ورئيس فرع الجمعية فيها اليوم.

 وخلال اللقاء تطارحنا ارشيفاً حيوياً، في قضايا الشريعة وتاريخ المجتمعات الإسلامية، كان للشيخ توقيعاً من ذاكرته، فضلاً عن تواضعه الجم والذي هو سيرة معتادة في علماء ماليزيا، وكان رابعنا الجميل الأخ العزيز د. خير الأنوار سكرتير الجمعية، وبعث لن الشيخ الكريم الدكتور داتو محمد رئيس الجمعية سلامه وتحياته، بعد أن أعاقته بعض الانشغالات.

 ابتدأ الحديث عن غزة وملحمتها، وهولوكوست الغرب الجديد في جسد فلسطين، وانتهى عن أسئلة المنصات الغربية في الأمم المتحدة إلى المسلمين بفوقتيهم المعتادة.

 ولذلك أشار د. لقمان عبد الله إلى أهمية اطلاع علماء ماليزيا، على بعض حوارات المهجر مع الضغوط السياسية الاجتماعية والثقافية على المسلمين، وقال لي إن بعض ما تحررونه في المركز الكندي، يعاد طرحه علينا في تلك المنصات، فبدت لي القصة من جديد في سؤال الشرق القديم، وفي منصة حلمه التي تعمل على طرح أفكار إنقاذه، ومواجهة جدل الغرب الحداثي بالمنبر المعرفي الإسلامي، لعل كوالالمبور تشعل في زمننا الحالك آخر الشموع.