Categories: مقالات

لي كوان..النرجسية التي صنعت سنغافورة

مهنا الحبيل

26/7/2022

يصدمك إعلان لي كوان يو الزعيم التاريخي المؤسس لدولة سنغافورة، التي سحرت الشرقيين في نجاحها وقدمت نموذجاً تعددياً مذهلاً في التعايش والحقوق الدستورية المدنية، ثم مستوى معيشي وصناعي متطور وجاذب للاستثمار ودخل مواطنيها، بأن كوان يعلن بوضوح إيمانه وتأييده العميق للقصف النووي الأمريكي لهيروشيما ونجازاكي، وأنهُ يؤمن بفكرة الإبادة الكولونيالية لتطبيقها على جزء من الشعب الياباني، كشعب يعيش توحش متخلف حتى توقف الحرب، ولماذا هو كذلك للقصة بقية.

على مدى 25 ساعة سمعية كانت رحلة كتاب قصة سنغافورة للي كوان، أكثر استيعاباً في تقديري من الورقية، فلفهم الباحث هناك محطات مهمة للتوقف عندها وهناك عقلٌ نقدي، قد يُفسد عند البعض، روح التشوق في قصص السير، وخاصة أمام شخصية كاريزمية كلي كوان اجتذبت الشرق والغرب، وقد بدأ تسلسل تمجيده من تقريظات الزعماء الغربيين للعالم الكولونيالي، بدأً من الرئيس جورج بوش وتاتشر وشركاء التاج البريطاني في استراليا ونيوزلندا، ثم حشد من زعماء العالم.

ولم انتبه لمساهمة شخصيات مالايوية، رغم أن ماليزيا هي الطرف الآخر الرئيسي في معادلة القصة، وهي كإقليم لها تعريفها التاريخي الاجتماعي القديم، والذي ربما حمل كلمة السر لتفسير الموقف الشرس، في روح لي كوان ضد الأمة المالاوية، وليس فقط ضد منظمة امنو الشريك الأساس في رحلة استقلال سنغافورة، حين ضُمت مع أرخبيل المسلمين المالايويين، بطلب ملحٍ من لي كوان نفسه.

هذه العدائية التاريخية في وجدان لي كوان، تحتاج تفصيلاً مهماً للإنصاف الصعب، بين موقفه وكراهيته كذات سنغافورية (صينية-انجليزية)، وبين نقده لخطايا منظمة امنو، الممثل الوطني لسكان الأرخبيل الأصليين منذ مئات السنين، وحتى سنغافورة كانت في التاريخ القديم وقبل الهجرات ضمن جغرافيا الملايو، وديمغرافية المسلمين في شرق آسيا، وهي مسألة يحتاج لفهمها القارئ الكريم، حين نحاول فهم معضلة الملايو النفسية لدى لي كوان.

منذ بدأ ميلاده يسرد لي كوان بالتفصيل قصة حياته، كفاحه الشخصي الاجتماعي قبل أن يصل إلى المرحلة السياسية، وعند أوّل محطات العمل الشبابية تأتي مرحلة الاحتلال الياباني، والتي يتفق خصومه الماليزيين معه فيها، في وصف وحشية تلك الثقافة وحجم احتقارها للذات البشرية خارج الامبراطور المعبود، أو امبراطورية الآلهة، يروي لي كوان كيف يُقتل الناس ويعذبون وكيف استباحت اليابان الصين وشرق آسيا، واتخذت نسائهم سُخريّا.

حيثُ كانت الصين حينها ضمن مناطق المقاومة، وكان الجيش الياباني إضافة لمجازره وقطع الرؤوس، ينقل الى مناطق نفوذه، حشوداً من نساء الصين وشرق آسيا، ويحجزهم في منزل خلال احتلاه لماليزيا وغيرها، وهذه لم تفعلها حتى داعش، فتودَع تلك الضحايا من النساء، لتأمين احتياجات الجيش الامبراطوري الياباني الجنسية، بكل قسوة وانحطاط وسقوط كامل للضمير.

هذه الصورة ليست مشهداَ عارضاً بل سياسة يابانية ممنهجة، وقد أثرت في مفاهيم لي وروحه الصينية المتقدة، التي لم تكن أبداً تتوارى، ولكن ذات هذه الروح لا تكاد تراها في حديثه عن شعب ماليزيا القديم، رغم أنهُ كان يعتني بمعاناة الصينيين المهاجرين لماليزيا قديماً وحديثاً.

ومن الشواهد المهمة التي تؤخذ من سرديات لي كوان، هو رغم كونه الابن المدلل للتاج البريطاني، وهناك تفاصيل مهمة في حياته السياسية، هذا الكتاب هو المصدر الوحيد هنا فيها، إلا أن صين ماوتسي تنج في ثوبها الشيوعي كانت حسب تعبيره، مشروعا تقدمياً، رغم صراعه التاريخي والخطير مع الحزب الشيوعي الملاوي المتحد، وكل تشكيلات الشيوعيين في الملايو.

يُقارب لي كوان كثيراً تنكو عبد الرحمن، قائد منظمة أمنو ورئيس أول حكومة للاستقلال الوطني في ماليزيا، في موقفه في تقييم ما بين الاستعمار الغربي المغادر، وبين النفوذ الشيوعي، وهي مرحلة دقيقة وخطيرة جداً، لا يمكن للباحث أن يحرر رؤيته فيها دون النظر للنفوذ السوفييتي والصيني الضخم حينها، في ثوب الأحزاب الشيوعية، والتي كانت تنبتُ كالفِطر في شرق آسيا الحديقة الخلفية.

يواصل لي كوان في رحلته مع تنكو عبد الرحمن، التعامل بنرجسية فوقية وسخرية منه، رغم أن خلاصات مواقف تنكو كانت تصب في صالح سنغافورة، وخاصة في مآلها الأخير، أي إصرار تنكو عبد الرحمن، على منح سنغافورة استقلالها التام لا الجزئي، والذي سنفصّله في حينه، وهنا كان كلٌ من تنكو عبد الرحمن ولي كوان، يعتقدون أن التعامل بالكفاح المدني الدستوري والسياسي، لإخراج الاستعمار الغربي، أفضل بمراحل من الانضمام الى الصراع الشيوعي المسلح والسياسي، ضد الغرب، وهي نظرة يؤيدها مآلات الأمور في مستعمرات الغرب وواقع شرق آسيا.

في كل مرحلة قدم لي كوان دليل مشاركته ليس في صناعة سنغافورة وحدها، ولكن في خلق ماليزيا التي انفصل عنها وأخذ موقفاً عدائيا من أمتها القومية، كما هو في رحلته في عالم السياسة والعبور بين اللقاءات السرية مع الصينيين الشيوعيين في سنغافورة، وبين رحلته الإنكليزية الدافئة في كل فصولها، وقدرته على كسب الثقة المطلقة منهم، فضلاّ عن أنهُ قدم ذاته كقائداً ناجحاً في احتواء الملاويون، اللذين غَمز منهم ومن اسلامهم، بصورة غريبة.

تعجب كيف يستخدم لي كوان ذكر النبي محمد صلى الله عليه وسلم أول التقديم، ثم يكتب في عنوان أهم فصل من كتابه، (طالق طالق طالق) في إشارة إلى علاقة انفصال سنغافورة بمفهوم الطلاق في الشريعة، موقف أقل ما يقال عنه أنهُ سخيف، تضخمت فيه نرجسية لي كوان كثيراً دون مبرر.

أين هو تقدير تلك النرجسية في مشروع لي كوان في صناعة سنغافورة، هل هو مبرر أم هو ضرورةٌ لكي ينجز الزعماء مشاريعهم العظيمة، هذه نسبية نتركها للقارئ، لكن علينا أن نقف مع إخفاقات الزعماء حين نبحث في تجارب النهضة كما في نجاحاتهم.

mohana63

Recent Posts

العقل المعرفي..الفارق الفلسفي الإسلامي

العقل المعرفي.. الفارق الفلسفي الإسلامي مهنا الحبيل في رحلة الجدل الفلسفي المعاصر، تختط قواعد المقارنة…

4 أيام ago

أفق السلام الكردي_التركي

أفق السلام الكردي-التركي مهنا الحبيل أياً كانت القراءات المختلفة، لموقف دولة بهتشلي القائد القومي التركي…

4 أيام ago

فرض الديمقراطية الدموية

فرض الديمقراطية الدموية مهنا الحبيل يفكك روسو التحديات التي تواجهها السلطة الاشتراعية، وخاصة كونها القوة…

4 أيام ago

أصحاب الظرف الخاص في مجتمعاتنا العربية

أصحاب الظرف الخاص في مجتمعاتنا العربية مهنا الحبيل هل توقفت يوماً عند ذلك الطفل، الذي…

4 أيام ago

رسالة للزواج الجديد

رسالة للزواج الجديد مهنا الحبيل يبدو عنوان البرنامج الوقائي، لوازرة التنمية الاجتماعية في قطر، مهم…

4 أيام ago

الديمقراطية التي تحمي السيادة

الديمقراطية التي تحمي السيادة مهنا الحبيل يعرضُ روسو لطبائع الشعوب وما يُلائمهم من حكومات، كسلطة…

4 أيام ago