مقال بحثي
مهنا الحبيل
لي كوان..النرجسية التي صنعت سنغافورة
يصدمك إعلان لي كوان يو الزعيم التاريخي المؤسس لدولة سنغافورة، التي سحرت الشرقيين في نجاحها وقدمت نموذجاً تعددياً مذهلاً في التعايش والحقوق الدستورية المدنية، ثم مستوى معيشي وصناعي متطور وجاذب للاستثمار ودخل مواطنيها، بأن كوان يعلن بوضوح إيمانه وتأييده العميق للقصف النووي الأمريكي لهيروشيما ونجازاكي، وأنهُ يؤمن بفكرة الإبادة الكولونيالية لتطبيقها على جزء من الشعب الياباني، كشعب يعيش توحش متخلف حتى توقف الحرب، ولماذا هو كذلك للقصة بقية.
على مدى 25 ساعة سمعية كانت رحلة كتاب قصة سنغافورة للي كوان، أكثر استيعاباً في تقديري من الورقية، فلفهم الباحث هناك محطات مهمة للتوقف عندها وهناك عقلٌ نقدي، قد يُفسد عند البعض، روح التشوق في قصص السير، وخاصة أمام شخصية كاريزمية كلي كوان اجتذبت الشرق والغرب، وقد بدأ تسلسل تمجيده من تقريظات الزعماء الغربيين للعالم الكولونيالي، بدأً من الرئيس جورج بوش وتاتشر وشركاء التاج البريطاني في استراليا ونيوزلندا، ثم حشد من زعماء العالم.
ولم انتبه لمساهمة شخصيات مالايوية، رغم أن ماليزيا هي الطرف الآخر الرئيسي في معادلة القصة، وهي كإقليم لها تعريفها التاريخي الاجتماعي القديم، والذي ربما حمل كلمة السر لتفسير الموقف الشرس، في روح لي كوان ضد الأمة المالاوية، وليس فقط ضد منظمة امنو الشريك الأساس في رحلة استقلال سنغافورة، حين ضُمت مع أرخبيل المسلمين المالايويين، بطلب ملحٍ من لي كوان نفسه.
هذه العدائية التاريخية في وجدان لي كوان، تحتاج تفصيلاً مهماً للإنصاف الصعب، بين موقفه وكراهيته كذات سنغافورية (صينية-انجليزية)، وبين نقده لخطايا منظمة امنو، الممثل الوطني لسكان الأرخبيل الأصليين منذ مئات السنين، وحتى سنغافورة كانت في التاريخ القديم وقبل الهجرات ضمن جغرافيا الملايو، وديمغرافية المسلمين في شرق آسيا، وهي مسألة يحتاج لفهمها القارئ الكريم، حين نحاول فهم معضلة الملايو النفسية لدى لي كوان.
منذ بدأ ميلاده يسرد لي كوان بالتفصيل قصة حياته، كفاحه الشخصي الاجتماعي قبل أن يصل إلى المرحلة السياسية، وعند أوّل محطات العمل الشبابية تأتي مرحلة الاحتلال الياباني، والتي يتفق خصومه الماليزيين معه فيها، في وصف وحشية تلك الثقافة وحجم احتقارها للذات البشرية خارج الامبراطور المعبود، أو امبراطورية الآلهة، يروي لي كوان كيف يُقتل الناس ويعذبون وكيف استباحت اليابان الصين وشرق آسيا، واتخذت نسائهم سُخريّا.
حيثُ كانت الصين حينها ضمن مناطق المقاومة، وكان الجيش الياباني إضافة لمجازره وقطع الرؤوس، ينقل الى مناطق نفوذه، حشوداً من نساء الصين وشرق آسيا، ويحجزهم في منزل خلال احتلاه لماليزيا وغيرها، وهذه لم تفعلها حتى داعش، فتودَع تلك الضحايا من النساء، لتأمين احتياجات الجيش الامبراطوري الياباني الجنسية، بكل قسوة وانحطاط وسقوط كامل للضمير.
هذه الصورة ليست مشهداَ عارضاً بل سياسة يابانية ممنهجة، وقد أثرت في مفاهيم لي وروحه الصينية المتقدة، التي لم تكن أبداً تتوارى، ولكن ذات هذه الروح لا تكاد تراها في حديثه عن شعب ماليزيا القديم، رغم أنهُ كان يعتني بمعاناة الصينيين المهاجرين لماليزيا قديماً وحديثاً.
ومن الشواهد المهمة التي تؤخذ من سرديات لي كوان، هو رغم كونه الابن المدلل للتاج البريطاني، وهناك تفاصيل مهمة في حياته السياسية، هذا الكتاب هو المصدر الوحيد هنا فيها، إلا أن صين ماوتسي تنج في ثوبها الشيوعي كانت حسب تعبيره، مشروعا تقدمياً، رغم صراعه التاريخي والخطير مع الحزب الشيوعي الملاوي المتحد، وكل تشكيلات الشيوعيين في الملايو.
يُقارب لي كوان كثيراً تنكو عبد الرحمن، قائد منظمة أمنو ورئيس أول حكومة للاستقلال الوطني في ماليزيا، في موقفه في تقييم ما بين الاستعمار الغربي المغادر، وبين النفوذ الشيوعي، وهي مرحلة دقيقة وخطيرة جداً، لا يمكن للباحث أن يحرر رؤيته فيها دون النظر للنفوذ السوفييتي والصيني الضخم حينها، في ثوب الأحزاب الشيوعية، والتي كانت تنبتُ كالفِطر في شرق آسيا الحديقة الخلفية.
يواصل لي كوان في رحلته مع تنكو عبد الرحمن، التعامل بنرجسية فوقية وسخرية منه، رغم أن خلاصات مواقف تنكو كانت تصب في صالح سنغافورة، وخاصة في مآلها الأخير، أي إصرار تنكو عبد الرحمن، على منح سنغافورة استقلالها التام لا الجزئي، والذي سنفصّله في حينه، وهنا كان كلٌ من تنكو عبد الرحمن ولي كوان، يعتقدون أن التعامل بالكفاح المدني الدستوري والسياسي، لإخراج الاستعمار الغربي، أفضل بمراحل من الانضمام الى الصراع الشيوعي المسلح والسياسي، ضد الغرب، وهي نظرة يؤيدها مآلات الأمور في مستعمرات الغرب وواقع شرق آسيا.
في كل مرحلة قدم لي كوان دليل مشاركته ليس في صناعة سنغافورة وحدها، ولكن في خلق ماليزيا التي انفصل عنها وأخذ موقفاً عدائيا من أمتها القومية، كما هو في رحلته في عالم السياسة والعبور بين اللقاءات السرية مع الصينيين الشيوعيين في سنغافورة، وبين رحلته الإنكليزية الدافئة في كل فصولها، وقدرته على كسب الثقة المطلقة منهم، فضلاّ عن أنهُ قدم ذاته كقائداً ناجحاً في احتواء الملاويون، اللذين غَمز منهم ومن اسلامهم، بصورة غريبة.
تعجب كيف يستخدم لي كوان ذكر النبي محمد صلى الله عليه وسلم أول التقديم، ثم يكتب في عنوان أهم فصل من كتابه، (طالق طالق طالق) في إشارة إلى علاقة انفصال سنغافورة بمفهوم الطلاق في الشريعة، موقف أقل ما يقال عنه أنهُ سخيف، تضخمت فيه نرجسية لي كوان كثيراً دون مبرر.
أين هو تقدير تلك النرجسية في مشروع لي كوان في صناعة سنغافورة، هل هو مبرر أم هو ضرورةٌ لكي ينجز الزعماء مشاريعهم العظيمة، هذه نسبية نتركها للقارئ، لكن علينا أن نقف مع إخفاقات الزعماء حين نبحث في تجارب النهضة كما في نجاحاتهم.
معضلة لي كوان مع ماليزيا
تعتمد مصادر هذه الرؤية النقدية بصورة رئيسية على كتاب مؤسس سنغافورة الحديثة (قصة سنغافورة)، ومن المهم للغاية أن نُلخّص أزمة ميلاد الاستقلال التي شملت أرخبيل المالايو وسنغافورة وبروناي، والأخيرتان كانتا أيضاً ضمن تواجد ديمغرافية أمة المالايو أهل الأرض والتاريخ القديم، التي واجهت حملات الإبادة الكولونيالية الغربية القديمة والحديثة، ولكن هذه القومية صمدت في أرضها، وظلت رقماً صعباً رغم التهجير السياسي الحديث، في عهد بريطانيا.
كان المشترك بين تنكو عبد الرحمن كقائد للملايو ولي كوان يو، هو ضرورة التعامل عبر الضغط السياسي والكفاح الفكري مع العهد الأخير للوجود البريطاني، الذي أبدى الاستعداد للانسحاب، ولكن مرحلة الشروط والتنفيذ كانت تحت الضغط والتفاوض، ويتفق لي كوان مع د. مهاتير محمد، على وجود مبالغة كبيرة لدى تنكو عبد الرحمن في مراعاة الإنجليز، وبالذات في التعامل مع حركة عدم الانحياز، التي كانت أقرب للمعسكر اليساري، ولكنها كانت تمثل ضرورة توازن قصوى.
ولكن بالعموم فإن موقف تنكو عبد الرحمن كان متطابقاً، مع لي كوان في علاقتهما مع الإنجليز لهدف تأمينٍ مستقل للإقليم، وإشارات كوان لتقارب أكبر لتنكو من الغرب منه، لا تٌصدّقها تفاصيل علاقاته ووثائقه المشارة إليها في كتابه، وخاصة خاتمة مشروعه السياسي في سنغافورة.
حينها لم يكن للي كوان منزلة توازي تنكو، فموقعه لم يكن مؤهلاً مطلقاً ليكون زعيماً مقبولاً للمشاركة عند الملاويين، وهم الديمغرافية الكبرى في الإقليم، فضلاً عن أن يكون الزعيم المطلق للأرخبيل، ولكن تنكو عبد الرحمن قرّبه ودعمه، وأشركه في الخطة الإقليمية والتي كانت تُنسق مع لندن في مواجهة خطرين كبيرين، الأول تهديد الزعيم الإندونيسي التاريخي أحمد سوكارنو، بغزو ماليزيا وضمها عنوة، وخاصة بعد التحامه مع بكين وموسكو في ذروة تحوله اليساري.
أما الثاني فهو قوة الأحزاب الشيوعية في أرخبيل ماليزيا، وفي سنغافورة والدعم المطلق لها من الصين، وهنا تلعب القومية المشتركة بين الشيوعيين في الصين، وبين الصينيين في الملايو وفي سنغافورة دوراً بالغ الحساسية، يصنع اشتباكاً صعباً، لو قُذفت فيه ماليزيا لما وصلت ليوم الاستقلال ولا الميلاد الجديد، أو لربما كانت ستتحول لمجرد مسمى دولة في هيكلها السياسي، يخضع كلياً لسلطة ونفوذ الصين، وهو الخطر الرئيس الذي لا ينفك عن الماليزيين حتى اليوم، ومتجذرٌ في قلقهم السياسي والاجتماعي.
كان لي كوان يعلم أن واقع تجربته السياسية القوية والفعّالة في سنغافورة، لن تضمن له مقعداً مؤثراً وخاصة في المشروع النهائي، فسنغافورة لن يكون استقلالها متاح ومؤمّن، إلا إذا كان عبر استقلال الملايو (ماليزيا اليوم) أولاً، فهو يخشى من القوة الشيوعية الصينية في سنغافورة، المتمكنة من النقابات واتحادات الطلبة والحرفيين والمهنيين، ولذلك أًصّر على ربط سنغافورة باستقلال ماليزيا، والعجيب أن تنكو عبد الرحمن تجاوب مع حرية سنغافورة وبشهادة لي كوان نفسه، رغم أنهُ كان مدركاً لخطر ضمها على ماليزيا، وهذا خلافاً لما قاله مهاتير محمد للجزيرة.
فتنكو بحسب سياق قصة سنغافورة استجاب في ظل ضغط لي كوان، الذي استثمر رغبة التاج البريطاني للدمج، فلندن كانت تخشى من تحول شرق آسيا لقبضة الصين الشيوعية وملأ الفراغ الإنجليزي الذي كان ينحسر عن مستعمرات بريطانيا، ويُثبّت لي كوان في كتابه مقولة تنكو عبد الرحمن له، والتي تُفهم اشاراتها بوضوح بأن هذا الأرخبيل اسمه الملايو، وأمة الملايو هم ترابه وشجره وروحه لا مكان لهم غيره، حيث قال للي كوان: (إن صينيي وهنود ماليزيا وسنغافورة، لهم وطن يرحلون له، ولكن ليس للملايو إلا هذا الوطن)، ولم تكن تسمية صينيي ماليزيا أو هنودها، مشروعاً مستحدثاً لمنظمة الملايو المتحدة (أمنو) العدو التاريخي للي كوان.
ولكن المصطلح ارتبط بالمُجتَمَعَين، عبر التشكلات السياسية الاجتماعية للمهاجرين الجدد في سياسة بريطانيا، وتواصل هذا التمسك بالمرجعية القومية لكلا المواطنتين، (الصينيين الماليزيين والهنود الماليزيين)، حين تجاوب تنكو مع مطالبة ضم سنغافورة لأرخبيل الاستقلال، رغم تهديد التغيير الكبير في تركيبة ماليزيا السكانية، لم يكن هناك صراعاً بينه وبين لي كوان، وواصل لي كوان من خلال موقعه كأحد المسؤولين في مشروع تنكو للاستقلال، مشاركة الزعيم الأبرز في رحلة ماليزيا وسنغافورة للاستقلال.
متى إذن وقع الخلاف؟
يداوم لي كوان على التبخيس من تنكو كما أن (روايته عنه) في المشروبات الكحولية وفي النساء قبل توبته، واتجاهه لمفاهيم الوحدة الإسلامية كأمينا عاماً لمنظمة المؤتمر الإسلامي، لا يُمكن أن تقرأ بصيغة مهنية ولكنها تفهم من خلال نفسية أزمة للي كوان، والتي كانت تتدفق عليه في فصول قصته مع أمة الملايو، وهو ملف له بعده وإشكاليته أيضاً في ذات المجتمع الماليزي القديم.
والذي انتقده د. مهاتير محمد بشدة في كتابه معضلة الملايو، وهي قصة طويلة في عجز الذات الملايوية للتحول إلى نهضة فرد تصنع نهضة مجتمع، ثم تتحول إلى قاعدة قوية للنهضة الصناعية والمدنية، وهو ملف يحتاج إلى علاج وطني مركزي، فرغم وجود طبائع تغلب على الشعوب، إلا أنني أرى هذا الأمرُ مبالغٌ فيه وأحسبُ أن ماليزيا لو سَلِمت من نكستها في الفساد السياسي والاقتصادي، واستثمرت روح المرأة الناهضة النشيطة فيها، مع خلق أجيال تعليم مميزة، تبني على تحالف مهاتير/ أنور، فإن هذا التوارث للشعور بعجز الذات سيزول.
وكلا الشخصيتين اللدودين، لي كوان ومهاتير كانا يؤكدان هذه الأزمة، لكن كل من مساحته، فكوان يشير لها في معرض عجز أمة الملايو المتخلف، الذي يجب أن يتحمل مسؤوليته، فتكون القومية الملايوية في أرضها، تحت سياق الانقياد لا القيادة، ويُفتح الطريق أمام صينييها دستورياً لقيادة الأرض والشعب معاً، وهو هدفه المعلن لتبرير صراعه، أما مهاتير فكان يَنقد الذات لإنقاذها.
كلمة السر في إنفصال سنغافورة
يربط لي كوان أول خيط انفصال سنغافورة بالفتنة الطائفية، ويتهم بقوة وكثافة أحد ابرز مسؤولي (أمنو) المتورطين في التحريض، ويوثّق ما نشرته الصحافة الملايوية عنه، من تحريض وإثارة تتهم لي كوان وقيادة حزبه بعد نجاحهم الانتخابي، وهو حزب العمل الشعبي بانهم يستهدفون المسلمين المالايويين ويضهدونهم.
وهو ما ينفيه لي كوان ويقدم الدلائل على ضده، من أن سياسات حزبه كانت تحتوي الجميع، هذا الزعيم الذي احتج لي كوان بتطرفه كثيراً في (أمنو) هو السيد جعفر بن محمد البار، وهو شخصية من أصلٍ عربي حضرمي، أشتهر بتنبي خطاب التعبئة الديني والقومي، ويُحمّله لي كوان مسار التحريض على الصينيين الماليزيين، وفي كل الأحوال كانت نتيجة الاحتقان على الأرض (1964-1965)، موجات من المصادمات الشعبية بين الطرفين الملايو والصيني، في سنغافورة والتي امتدت بعد ذلك إلى كولالمبور وسقط فيها ضحايا وتكررت في السبعينات.
يعترف لي كوان نفسه بأن تنكو عبد الرحمن كان حزيناً جداً لهذه الأحداث وبكى ساعتها، وهو يقول أنها أسوء يوم مر على الأمة (المستقلة حديثاً) وأنهُ قال في خطابه بأنكم تعرفون أنني لم أكن مسؤولاً عن هذا الخطاب في إشارة لجعفر البار، ولكن لم يكن تنكو يستطيع إدانته ومعاقبته حزبياً، بسبب الحسابات الصعبة لمخاوف المالايويين من التطرف الآخر.
هنا نعود لموقف مهاتير الذي كان يرد على لي كوان، بأن معالجة الأزمة يكمن في تأهيل المواطنين المالايويين وتنمية قدراتهم، وليس إعلان عجزهم لسحب مساحتهم الدستورية، وتمكين بقية الجماعات المهاجرة، من قرار الدولة السياسي والسيادي، ونحتاج هنا للإشارة إلى الحاجة الماسة للرجوع إلى ملفات ماليزيا، من خارج قصة لي كوان ونسخته من الأرشيف الإنجليزي، والرجوع لكتاب تنكو عبد الرحمن غير المشتهر الذي أشار له لي كوان، وهو بعنوان (نظرة إلى الخلف).
كما أن هناك غموض في تاريخ جناح المالايو من الحزب الشيوعي، وفهم معادلته في الصراع وكفاحه ضد الاحتلال الإنجليزي، وإن كانت سياقات المشهد في ذلك الزمن، تشير إلى قوة نفوذ بكين، واعتمادها على العنصر الصيني الشيوعي، مما ضاعف المخاطر على الملاويين، فالولاء قوي للغاية باعترافات متتابعة من لي كوان، في المجتمع الصيني الماليزي للشيوعية الصينية، وإن كان لي كوان يؤمن بالفكرة اللبرالية المطلقة، المتحدة مع المشروع الغربي الإنجليزي، التي أعطت مساحة لصالح مشروعه المدني.
نشير هنا أيضا إلى فهم الصراع الخطير لكوالالمبور مع الجارة المسلمة الكبرى اندونيسيا، والتي كانت تهدد عبر سوكارنو بالزحف وابتلاع ماليزيا، لقد كان ثوب سوكارنو شيوعياً، لكن الأمة القومية التي اعتمد عليها كانت متداخلة مع المالايو قومياً، وهو ما يعني أن الخطر كان من جار مسلم تحالف مع الشيوعية العالمية ضد الميلاد الجديد، وهو ما جعل خيارات تنكو عبد الرحمن والحراك الوطني الماليزي، تعيشُ ضغطاً شرساً على ميلاد الوطن الجديد.
في هذا الوقت كان لي كوان يتوسع بقوة في مساحة الشعب المالايو ويخترق دوائرهم الانتخابية، وهو يبرر ذلك بأن هذا ضمن مفاهيم ماليزيا للجميع، غير أن مفهوم ماليزيا للجميع لم يكن تحت تفسيرٍ واحد، فتنكو الذي قبل ضغط لي كوان وضم سنغافورة، اعتبر أن المقابل لموقفه الإيجابي يمنحه فرصة كمركز قومي لماليزيا، في الاستثمار في سنغافورة والاستفادة من ضمها في المفاوضات الدولية، كونها جزءً من الأرخبيل المستقل.
وهذا ما وقف ضده لي كوان على الأرض، وهو يبرر ذلك بحقوق سنغافورة لكنه لا يعترف بحقوق المالايو القومية، وخشيتهم من مخاطر التذويب، ولم يتفهم ذلك، لقد كان مشروع لي كوان متحداً تماماً في تقديري مع المشروع الإنجليزي كبديل أفضل، لكن في ذات الوقت لم يكن للتاج البريطاني أن يُغضب الملاويين ويَفقد علاقته معهم، في ظل الزحف الشيوعي، فما هو مشروع لي كوان لماليزيا المختلفة؟
تقوم أفكار لي كوان في نهاية مشروعه، على إلغاء الهوية القومية الأصلية لتاريخ الأرخبيل، وتقدم الصينين الماليزيين ولكن عبر الفكرة اللبرالية، فتكون القوى الشعبية للملايو هي قوة عمل وتشغيل، وتكون ماليزيا الجديدة التي تزحف عبر حزبه وتحالفاته ونشاطه المدني، أمام أخطاء وتخلف النخبة الملايوية، في موقع الصدارة الزاحفة للأغلبية الدستورية، حينها سوف تُحسم ماليزيا خارج الأمة القومية لسكان الأرض، ويُلغى الإسلام كلياً من هوية دولة الأمة، ويُحصر في حقوق تعبد شخصي فقط.
وعندها تتحول ماليزيا إلى مشروع صناعي حديث تقوده أفكار لي كوان، وتقود شركاته قوة الصينيين الماليزيين، وتنحسر مساحة الملايو لتقترب من قوة عمل تشغيلية لا أمة ذات ثقافة، تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين الاستقلال الحضاري الفكري والنهضة الصناعية والتعايش المدني، وهو تعايش قائمٌ اليوم وتنتشر معابد الصينيين والهنود في كل مكان ويَحظر القانون أي مس أو تعدٍ عليهم، لكن هذا ليس كافياً للي كوان، وهنا نشير إلى موقفين مهمين:
1- جواب لي كوان عن مصير ماليزيا الحالية لأحد المسؤولين الإنجليز وقد عرض 3 أمور ستسير لها، كلها مؤشر انهيار لماليزيا الحالية، لم تتحقق وولد مشروع نهضة خلافا لتوقعه.
2- أن تنكو عبد الرحمن مع كل اخطائه التي يثبتها لي كوان، تعامل بإجراءات عملية، لي كوان نفسه كان عاجزاً عنها، أمّنت استقلال سنغافورة سلمياً، وهو الهدف الثاني المهم للي كوان حين عجز عن الهدف الآخر.
كل ذلك لا ينكر تجربة لي كوان الثرية ولا تميزه، لكن ليس من حقه أن يفرض على أمة التخلي عن قيمها ووجودها، مقابل مصالح لبرالية ومعيشية، كما أن ذلك لا يعذر المالايو من اليقظة بعد السبات الطويل، ومواصلة درب النهضة عبر الحرية السياسية وفاعلية الذات المسلمة التي تتعبد الله في النهضة كما في الصلاة.