مالكوم إكس.. اغتيال الذاكرة النضالية

مهنا الحبيل

19/10/2019

نجح أليكس هالي في هدفه إلى ربط القارئ، بروح مالكوم، الثائر وأطوار تاريخه المتعدّدة، والتي كان يَعتبر فيها مالكوم أن وصف الصحافة الأميركية له صحيح، ولكن بالتفسير النضالي الذي يعتمده هو، لا الصحافة التي قدّمت سيرته عشرات الأدلة، بأنها كانت موجّهة مبكراً إلى إسقاط مالكوم إكس، فكان وصفهم له “الزنجي الأحمر الأكثر غضباً” في أميركا، ضمن هذا السياق.والذي يقرأ سيرته، بقلم أليكس هالي ونبضه، والتي راجعها مالكوم، وأكد لهالي أنه يترّقب الموت في أي لحظة، وأنه لن يرى هذا الكتاب بعد أن يُنشر، يُدرك حجم التشويه الذي لحق بمالكوم بعد موته، وليس في حياته فقط. إنها الحقيقة التي لا يمكن أن نطمسها، وحتى إذا تغافلنا عنها، فهي تأتي بقوة على طاولة البحث المستقل، تندفع بكل وضوح لتذكّرنا بأن العالم تحت الإمبريالية الغربية، وخصوصا الأميركية، لا يزال يُزيّفُ له التاريخ، بما فيه محو قيم الكفاح وتضحيات المناضلين، ولذلك نجد رابطاً واضحاً بين أفكار مالكوم إكس وإدوارد سعيد وعلي عزت بيغوفيتش، في اهتمامهم وإصرارهم على تحرير الفكرة وتأكيدها، بأن قضية الجنوب العالمي والشرق مع هذا العالم الغربي ليست تحديد قيم العدالة الاجتماعية، وتنمية الفرد وحريته، وإنما في تطفيف الموازين وإسقاطها. وهنا رابطٌ مهم لمهمة الصحافة الأميركية ضد الأميركي الأفريقي الأكثر غضبا، ودور الصحافة الغربية اليوم، ضد الجنوبيين الغاضبين لحقوق شعوبهم، المسحوقة تحت نير الاستبداد ونيران سياساتهم العنصرية.
الأمر ليس وجبة غضب مكررة، كلا.. وإنما العودة إلى حقيقة فكرية حاسمة، نجد آثارها على الواقع السياسي والإنساني المروع اليوم، حيث إن معركة النهضة والحرية ضد التخلف الديني  والثقافي والروح المَرضية للمجتمعات الجنوبية لا تزال تعاني من تدخل غربي، لا من عجز داخلي فقط، وهو بالضبط ما كان في صور كفاح مالكوم وروحه الثائرة الغاضبة التي كانت تخرج بعنفٍ غير مناسب في بعض تعبيرها، ضد تلك النماذج التي واجهها من ميشيغن حتى نيويورك، فهذه القيم المشتركة ليست مفاهيم خاصة بالمسلمين، لكن الإسلام الفكرة والأخلاق كان له شأنٌ آخر أقسم مالكوم في سيرته، وهو يسرد بالتفصيل رحلته في ليالي الجنس والمخدرات والسرقة، بأنه لم تكن هناك قوة أخلاقية في الأرض يمكن أن تعيد صناعته إنسانا مختلفا، تَطهر من كل تلك المواخير إلا الإسلام.
الرابط بين سعيد وبيغوفيتش وأليكس هالي ومالكوم إكس الذي يجمعهم، هو موازين التطفيف الضخمة في الرواق الإعلامي الثقافي والسياسي الغربي، وإن كان مالكوم تنبه إلى فكرة تصحيح خطابه ضد البيض الغربيين بعد رحلة الحج. والمقصود باتفاق أليكس هالي الروح التي كان يكتب بها عن مالكوم إكس كحقوقي للمجتمع المشترك، وليس تطابقه معه. كما أن لسعيد فضاءه المختلف عن مالكوم، من دون مغادرة الفكرة الأساسية، وهي البحث عن عدالة الميزان القيمي التي فنّدها علي عزت بيغوفيتش، فقد ظلت هذه فكرة حياة وكفاح لمالكوم إكس، وتسببت بإحدى إشكاليات جسوره ببعض الزعماء، من ذوي التاريخ المستبد، خصوصا ممن كان تحت الرداء الشيوعي، بسبب مهاجمته الصورة المنافقة لأميركا في العالم الثالث، والتي ذكر أن سفراء واشنطن كانوا يضيقون بفضحه لها، إلا أحدهم، والذي أشار إليه مالكوم بإيجابية بالغة، وهو أبيض أميركي حينما أصغى لمالكوم، وحدث بينهم حوار فكري، تجاوب معه مالكوم وسطّره في دفتر حياته، فلهذه الإشكالية التي يعيشها بعض المناضلين مساحة عذر، خصوصا في ذلك الزمن، ما دامت لم تُستخدم سلاحا مباشرا، يُحرّض عبره المثقف المناضل على أي معارضةٍ حقوقية للمستبد الذي يزعم أنه معادٍ لأميركا، فينهك شعبه ويسقط حقوقهم ويمنع حريتهم باسم ذلك العداء.
جَهدت الصحافة الأميركية التي اتّحدت، في نهاية الأمر، قبل اغتيال مالكوم إكس، مع من؟ مع إليجا محمد نفسه الذي قدم نفسه كنبي أسود بُعث ضد البيض، فتبنّوا جميعا الحكم على مالكوم إكس بالتطرّف، وكانت المؤسسة الأمنية بشواهد عديدة تبرز في سيرة مالكوم، حاضرةً في ذلك  المشهد بكل حيوية، فعلى الرغم من أن مالكوم، عبر جمعيته الجديدة، بلّغ الشرطة بمحاولة اغتياله، وقد أٌحرق منزله قبل اغتياله، إلا أن كل تفاصيل المسرح، وتصريحات قياديين أمنيين وخطاب إليجا محمد بعد مقتل مالكوم، كانوا شهوداً على هذا التوظيف لمسرح اغتياله، ويكفي أن تَترُك المسرح للمتطرّفين، ليكملوا الفصل الأخير.
من أهم أفكار سيرة مالكوم رحلة المراجعة الناقدة لخطابه العنصري، مع البيض الغربيين، والذي أعلن التراجع عنه، من دون أن تهتم الصحافة بذلك، وبقيت تركز على غضبه، فيرد عليهم بأن العنصرية الأميركية هي التي بعثت هذا الغضب، وأنه لا يكره الإنسان الأبيض الذي لم يرَ فارقا معه في نسك الحج، فاهتدى إلى أن القضية ليست في اللون ولا العرق الغربي كعرق، ولكن في الثقافة التي تُصنع باسم تفوق العرق الغربي، ويتأثر بها التاريخ الاجتماعي والثقافي للعالم، وتروح ضحيتها شعوب تحت حروب تفوّق العرق (الحضاري) ومصالحه.
جاءت لحظة اغتيال مالكوم، في ذروة مراجعاته التي شهدت تعاطفاً أبيض وحضوراً لافتا وحماسة من الشباب الأميركيين والإنكليز لمحاضراته، وبدء عالم الشمال والجنوب المنقسم في أميركا، يلتقي لكي يتحد على قيم العدالة الإنسانية، وسمع مارتن لوثر كينغ من مالكوم، عبر زوجة كينغ، صدق مشاعره ودعم مالكوم له. ولكنه صارحه بأن صرامة مالكوم في حقوق الأميركيين الأفارقة هي ما مهّدت للتعامل الإيجابي مع مارتن، وكان التجديد والأفق الإنساني يتدفق في روح مالكوم، ويؤكّد أن بعث الإسلام الحقوقي فيه ليس بعثاً أيديولوجياً يفرز الناس بأديانهم، وإنما بعثُ كرامةٍ وشراكةٍ متّحدة، لكل المعذبين في الأرض، في سبيل العدالة الاجتماعية، والمساواة الحقوقية، لحظتها فقط اغتيل مالكوم إكس؟