مهنا الحبيل

29/11/2022

يُشير هشام عايدي لمفهوم الجمال الفني والمظهري عند مالكوم إكس، وعايدي أمريكي من أصل مغربي، مهتم بحركات المقاومة الاجتماعية، والطبقات الغاضبة المهمشة من أصول أفريقية، في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، ما يهمني هنا هو أن هشام يدرس هذه الظاهرة، من زاوية مختلفة عن مركزية الأكاديمية الغربية، وهو يطرح مفهوماً سبق أن تم تداوله، في فلسفة الفكرة الإسلامية والمعذبين في الأرض.

       غير أن هشام الأستاذ في جامعة كولمبيا، يُقدمه هنا في مسار فهم التحول الكمي والنوعي، للطبقات المحرومة أو المهمشين في الأرض، وعلاقته بالمنظومة الأقرب لحملهم وإنقاذ نفسياتهم، وتمهيد الطريق الشرعي للكفاح المدني، وهو الإسلام، وهنا تُستَدعى الصورة المختلفة لحضور الفكرة الإسلامية، في أمريكا وأوروبا، فهي لم تأتي باسم التبشير الديني، ولكنها وحي وإلهام تتعلق به الذات، التي تجد أن الله يملأ روحها، وأن الدين يصنع لها قاعدة حياة وكرامة مختلفة، تفرض عليه أن يكون حسناً في خُلقه وفي سلوكه، لا غاضباً ينتقم من ذاته قبل الآخرين.

       ولذلك فالرحلة تعود بنا إلى قصة مالكوم إكس، فما يجري في العالم الأمريكي الآخر، لا يزال له امتداد بخلاصات حياته ورحلته، التي تتحد مع عقيدة المحرومين، ولا يقف وحي أفكار مالكوم على جماعته المنسوبة له، والتي تمتلك مركزاً إسلامياً بحي هارلم، ولكنها تتسرب لعوالم أخرى.

       وفي تقديري أن رحلة مالكوم تعود اليوم، ليس لجانب الأمريكيين الأفارقة فقط، بل قصة كل محروم ومهمّش، فعجلة الذبح الرأسمالي اقتصادياً وسياسياً من جهة، ومن جهة أخرى تَسلُّط الحداثة على سور السكينة الأخير للنفس وللأسرة، ونزع منزلها الروحي منها، وإلقائِها في صخب حياة الفلاشات والفوضى الهدامة لمنتجات السوشل ميديا، لتتساءل أين الطريق للإنقاذ، وهو طريق يصطدم بهذه الترسانة من السياسات والنظريات المفروضة لعالم الرأسمالية الغربي، فيحضر مفهوم المقاومة من جديد.

       يُعلّق هشام على حرص مالكوم إكس رغم تواضع ملابسه، على الحفاظ على هندامه الجميل، وأن شخصيته أضحت لوغو مفضلاً لدى بعض الشباب منذ استشهاده، ويقول أن ابنة مالكوم سمحت له بالدخول لمكتبته الخاصة، وأنه اطلع على أحد كتب سارتر المترجمة من الفرنسية الى الإنجليزية، فكان مالكوم يضع دوائر دقيقة على خطأ الترجمة، ويستفزّه تغيير المعنى ومالكوم كان يتقن الفرنسية، وكان يرى أن مساحة ما حرره فلاسفة اليسار وخاصة سارتر عن الزنوجة والتحرر، تتقاطع مع كفاحه.

       ولكنه فوجئ بمنع دخوله لفرنسا، بناءً على تحريض السفارة الأمريكية، فقال ساخراً، لم أعلم أن فرنسا تابعة لأمريكا!.

 في هذا المنعطف تحديداً يبرز لدينا ازدواجية بعض مفكري اليسار، إذ أن الفردانية التي انحرفت بفوكو، حضرت أيضاً لدى سارتر في مفاهيمه الكلية، التي استدعتها الحداثة وحاصرت بها الشعوب مجدداً، وعزّزت الطوق ضد المحرومين والشعوب المضطهدة، إلا أنه من الواجب أن تعاد سيرة تلك النخبة، وبالذات فرانز فانون، المقاوم الفرنسي الأسمر الصلب، الذي تحول إلى الكفاح المسلح لصالح جبهة التحرير في الجزائر.

       هذا الحشد يعود بنا لطرح سؤال المقاومة المدنية، وخلاصات موقف مالكوم إكس، وأين يقف في فكرة الشمول الأخلاقي الإسلامي، يجب هنا أن أنوه بالمقالة المترجمة المهمة لهشام عايدي، (موسيقى مالكوم إكس بين الملطّف والمتطرف)، وهي تُسلّط الضوء على مشروع إعادة إنتاج مالكوم إكس لصالح الدولة العميقة في أمريكا، وتهذيب ثورته بالقدر الذي يسمح أن يُقدَّم سجل حياته وفكره، كأيقونة تُجمّل تاريخ أمريكا المعاصر، ويُشير هشام عايدي إلى أن ضم مالكوم إلى أوباما، في مسرح الترويج الأمريكي، هو اختزال مضلل وكأنما هذه الحياة الرأسمالية هي من فتح الباب، لمشروع مالكوم فانعكس على اوباما.

       هناك الكثير مما يقال في تفنيد هذا الإيحاء، بل إن شخصية أوباما على الضد تماماً مما رحل عنه مالكوم، فالأول اُخضع بالفعل إلى تقاطعات القوة العميقة، التي لا يُغيرها البيت الديمقراطي أو الجمهوري، أما مالكوم الذي كُشف مؤخراً عن دور مكتب التحقيقات الأمريكية في اغتياله، وتوظيف مجموعات اليجا محمد ضده، فهو لم يزل ثائراً لصالح المهمشين المحرومين، وملهماً لتلك الجموع من الشباب الباحثين عن قيم الحرية والفطرة الإسلامية معاً.

       وحين يستطرد هشام عايدي عن معيار الموسيقى، في تحديد مقدار التطرف لدى أجهزة الدولة في أمريكا وفرنسا، يعرض الى ذوق مالكوم إكس وانسجامه، وخاصة في الجاز، ويُعيد هشام هنا ما أتذكّره تماما في كتاب الكس هالي، عن دقة وصف مالكوم لمقاطع الموسيقى، وحتى إشارته لجماليات الرقص، لكنه التزم بالحفاظ على القيم التي تمنعه من الابتذال، وإن كان له رأيه في الموسيقى الدافعة لضمير الحرية، والتي ظلَّ يستمع لها.

       إن الحكاية هنا متشعبة في فوضى معيار الدولة في الغرب، في الرصد والحذر من الشباب الغاضب، أو اتقاء توظيفهم عبر جماعات متطرفة لأعمال عنف، وما بين أن الموسيقى قد تكون ضمن سياق لغة الغضب الجامح في النفوس.

       يهمنا هنا وبدقة شديدة، العودة لتحرير أفكار مالكوم إكس، وأن تأكيده الصارم بأنه لم يتخلى عن مفاهيم الكفاح الحقوقي المدني، دمجه مع إعادة تعريف الإنسان الذي شمل الإنسان الأبيض، وأن يداه امتدت منذ ذلك اليوم إلى التعاضد المشترك، وهنا لا بد من رسم خط فاصل وشرح عمق غائب، عن حضور الإسلام في رحلة الكفاح الحقوقي.

 والذي يخلق بعداً أخلاقياً، وانسجاماً فلسفياً، بين أفكار الحرية والكفاح، وقيم الطهرانية الجسدية والروحية، التي ينصبغ بها الفرد ويُجلّل بها أسرته القريبة ومجتمعه الإنساني الشامل، إنها معادلة ترفض توظيف المعادلة الغربية للحياة الاجتماعية، وصناعة معايير الانتقاء لخلق إسلام مفصّل يروق للرأسمالية، في حين إسلام الحقيقة للمهمشين يبعث النور لأرواحهم، ويتجاوز أزمة اليسار مع الإنسان الأخلاقي.