مدخل جديد لعلم الاجتماع الغربي
مهنا الحبيل
نحتاج اليوم إلى إعادة ترتيب المراجعة التاريخية، لعلم الاجتماع في الغرب، ونحدد موضع النقد في استئنافه، وهل كان الخلل في هذا المضمار تحديداً، هو فكرة البحث عن أصول التاريخ الوجودي للذات البشرية، ثم تاريخ تطور معرفتها، وتعاقداتها الفطرية عبر المصلحة المتبادلة، كما هو نص القرآن الكريم (ليتخذ بعضهم بعضاً سخريا).
ثم اندفاع حركة التنوير الأولى، في دراسة سر التفاوت والاحتكار الطبقي الظالم، في نخبة القصر أو جوقة رجال الدين، لتحييدهم عن مفاهيم الحرية والسخرة الطوعية، لعمران الأرض في مصالح الإنسان، فهل لدينا في المعرفة الإسلامية إشكال مع هذا الهدف، أو معارضة لأصل هذا العلم، أم الإشكال في انحرافه حين تطرف في موقفه من الدين، وقبل ذلك انحراف المصدر الديني ذاته.
هذه الزاوية مهمة جداً لدراسة علم الاجتماع في الغرب، في المنظور الإسلامي لتاريخ الإنسان، وهدف تحرير هذا العلم في تطوير صيغ التعاقد البشري، وجعل مرجعها منافاة الظلم والاحتكار، فهنا نتناول زاوية الرفض التشريعي والأخلاقي في الإسلام كمدخل وسطي جديد، يُعيد تقييم التجربة المهمة للنهضة الغربية، بناء على استدعاء ميزان العدالة الذي أسقط، في تاريخ الفطرة الإنسانية، وعلاقتها بالروح.
والقيم التي جاءت من الوحي، الذي صدر علمه عن الخالق، لا النص التراثي الديني، الذي بسطه بالقهر رجال الدين في زمن الكنيسة، أو أي تراث ديني آخر، خالف هدي العدل المطلق، وهدي الخلق القويم الذي أمر به الخالق، الموجد لحركة تاريخ الإنسان والعالِم بتفاصيله، وقصص صراعه ووجوده.
ولذلك كان من المهم هنا أن نبسط هذه الدلالة، في أول تناولنا لمرحلة التعاقد الاجتماعي في الفلسفة الغربية، عند النصوص الأولى والبنود الدستورية التي سعى روسو أن يَخُطّها، لعالم الغرب الجديد، وهي تشمله وتشمل من قبله في هدف الاستئناف لعلم الاجتماع، في أوروبا المعاصرة بعد انقطاعه في العالم الإسلامي بعد مقدمة ابن خلدون.
وهي المقدمة التي كان من الممكن أن يتم البناء عليها، ونقدها وإعادة تحرير منطلقاتها، بحسب الهدي الذي كان يتبعه ابن خلدون في البحث في تاريخ الأمم والجماعات البشرية الضخمة، التي انتشر الإسلام في جغرافيتها، وتمازج مع طبائع شعوبها الفطرية، كونها في الأصل وَجدَت في الرسالة هذا الجامع بين العمران الأخلاقي، والتفسير الروحي للذات البشرية.
دون أن يمنعنا ذلك من النظر في حياة ابن خلدون، وأثر ما طرأ عليه في رحلته، بأسباب حالة السقوط التي واجهت حواضر العالم المسلم حينها، إن كانت أثّرت على فكره أو علاقاته، وجذبها أي دافع للانحراف، تعارض مع قيم العدل والمقصد الأصلي، وهنا يعاد تصحيح المنطلق الرئيسي، الذي يدرس مسيرة الاستئناف لعلم الاجتماع، في رحلة الاستغراب الحديثة نحو الغرب.
وهناك خلل كبير تحتاج دراسات الاستغراب أن تعالجه اليوم، وهو إهمال الجانب النفسي لحياة فلاسفة ومبدعي الغرب، وبالخصوص ما أثّر على تحريراتهم الفكرية والأخلاقية، ومنظومات مقترحاتهم في التأسيس الجديد لعلم الاجتماع، الذي هدف إلى فهم طبيعة الذات البشرية، ثم مركزيتها الكونية، ومتى وكيف ولماذا انفصلت البنية الروحية، عن هذه السرديات الضخمة والمتعددة، والتي تحولت إلى مؤلفات تأصيلية لانطلاقة الغرب الجديد.
وفي حياة روسو وهو أحد أهم المؤسسين المجددين لفلسفة التعاقد الاجتماعي، هناك رابط مهم في بوحه الأخير قبل موته في مذكرات المتنزه المنفرد بنفسه، وهي منظومة أدبية رقيقة وراقية، من مراجعة النفس والشجن إليها، نحت فيها حكايات متسلسلة، تداخلت فيها روحه المتجولة بين أركان الطبيعة في الجزيرة التي نفي لها، وبين مذاكرته الحزينة، والتي تضمنت خلاصات مهمة، عن رؤية روسو لغضب الجمهور حوله، الذي حرضه الساسة، وحلفائهم المعادون له في الكنيسة، يرسم فيها روسو خيمة سوداء في تقييم المجتمع.
ومن ضمن ما يستحضره روسو ويؤكده نحته الأدبي، بقاء تعقب الناس لموقفه من إلقاء بنيه الواحد بعد الآخر في الملاجئ، للتخلص من رعايتهم، فهو هنا يستحضر سؤالاً وُجه له عن (خبث) حسب ما يصفه:
هل لك أولاد؟ فأجاب بالنفي، وهنا يصف ذلك الموقف بألم وحزن، كونه هزيمة في الكذب والذنب معاً، وفضاء روسو النفسي في حديث المتنزه أوسع من هذا الموقف، وخاصة حين نفرده كنص أدبي في تلك الحقبة التاريخية، لكن تأثر روسو بهذه الخطيئة، هي من يدفعنا للعودة لها، حيث يفتتح الفصل الثاني في عقده الاجتماعي، وحجر الزاوية في تاريخ المجتمعات البشرية بسلطة الأب، وما بين الأب ورأس النظام السياسي، هناك مفارقة مختلفة، لا تتطابق مع قاعدة الفطرة لدى روسو.
فأين مساحة الفراغ هنا؟ لنا بعون الله حديث عنه في المقال القادم.