مهنا الحبيل

2/1/2024

كم من النماذج التي قد تسيطر أفكار عنها في مجتمعات المسلمين على مدى عقود أو قرون، أكانت كتباً أو شخصيات ذات مساهمة كبيرة في تاريخ الأمم، من حيث ما قدمته في علوم الدين وتحريرات الفكر المتصلة بها، أو مناهج الآلة وشؤون الدنيا، في العلوم الإنسانية، وقلنا العلوم الإنسانية والاجتماعية، لكونها الأكثر جهلاً أو تحويراً، أو على الأقل عدم دقة الفهم عن هذا الكتاب الشهير، ولا نزعم أن هذا المؤلَّف لم يتم تحريره والجدل عنه وشرحه، من قبل قامات كبيرة، فذلك حاصل ولكن لا يزال الوصول إلى بعض الأفكار الرئيسية فيه، أو في تاريخ صدوره المهم والدقيق، وما تزامن مع صدوره في حياة المؤلف، مسارات تحتاج تسليط الضوء.
والإمام الغزالي هو أحد الشخصيات الكبرى في تاريخ العلوم الشرعية للمسلمين، فمع إمامته في الفقه الشافعي، فله صدارة كبرى في معارف التصوف، وقلنا هنا معارف التصوف ولم نقل طرقها، لتميز منهج الغزالي وآخرين، عن منظومة الطقوس الملتزمة برابطة خاصة لهذا الطريق وذاك، وإن بقيت مسألة مسالك الذكر والتربية، وهو عالم واسع ضخم، يشمل المحسن والمسيء في جغرافيا المسلمين، إن رابط عند قواعد الشرع الكبرى، ولم تُغادر حقيقته الشريعة، وإن تلبس ببعض المبالغات، وبين من خرج عن جوهر الإسلام، ثم كاد أن يصنع ديناً جديداً أو فعل.
ولقد خاض الغزالي حرباً كبرى في جدله الفلسفي، وظل يردد بعض جوانبها في سفره التاريخي إحياء علوم الدين، وخاصة في قواعد العقائد وغيرها، رغم أن مركزية المفهوم لحربه الفلسفية، كانت في الكتاب الشهير تهافت الفلاسفة، والذي قدمه بكل وضوح كبارجة دفاع عنيفة (سُنية)، تهدم مرجع الجدل اليوناني الفلسفي في اللاهوت.
التي باشرها فلاسفة كبار وكان خلاف الغزالي معهم، يرتكز على، اشتباك علومهم بكليات ارسطو، وأن العلم الذي استغرقوا حياتهم فيه، يقوم على قواعد باطلة في التدليل الإيماني بوجود الله عز وجل، ثم صفاته، ثم التورط في الدوران حول الجوهر في ذات الخالق عز وجل، وذلك التيه الذي لا حدود له، في استدعاء أدلة يحررها العقل المادي، والدوران فيها منذ ارسطاليس، كما يسمى في كتب فلاسفة المسلمين، وهذه المسألة بالذات تدرك حجم السفسطة التي حشو بها ذلك الجدل واستدعاه الغزالي في تفنيده، وكذلك ابن رشد، وكيف أن هذا الحوار يَغرقُ فيه الباحث في الفلسفة، فضلاً عن طالب العلم، أو القارئ العام.
ثم مسألة قدم العالم، وتناسخ الأرواح، في حين جادل الإمام الآخر، القاضي ابن رشد، في صحة فهم الغزالي لكليات التحرير لدى الفلاسفة المسلمين، فقد اتفق كل منهما على أن هذا الدخول في هذا المدار، لا فائدة فيه ولا نتيجة تُرجى، وأنهما يحرران المسار في دائرة الفلسفة الخاصة جداً، في الاشتباك بين عقيدة المسلمين، وبين ايمانيات الفلاسفة، ولا خلاف بينهما أن العقيدة المسددة بالوحي في الإيمانيات، لن تجد مثيلاً لها في فلسفة ارسطاليس ومدرسته.
لكن دفاع ابن رشد كان رداً على منظومات الاتهام، باعتقاد من تقاطع في الاستدلال الإيماني من الفلاسفة، مع كليات ارسطاليس وغيره، قد تجاوز حد الإسلام وجزم الغزالي بكفره، وبالذات ابن سيناء والفارابي، ولذلك برر ابن رشد شرعية نقده للغزالي، الذي لا يمكن أن نقدم عنه هنا تصوراً شاملاً نزعمه، ولا حتى أن نحيط بتحريرات الغزالي في تهافت الفلاسفة، ولكننا هنا نسعى لتسليط الضوء على مسائل مهمة في هذا الجدل المركزي، في تاريخ الفلسفة للمسلمين ومن تأثر بهم، أو نقل عنهم من الغرب، دون فهم لخلفية التعاطي الشرعية المشتركة في التصور بين الغزالي وبين ابن رشد.
وسنعود لمناقشة هذه المسألة، لكننا نشير لتعريف الغزالي بين حياته الفلسفية وحياته الصوفية، ونقول بأن ما قدمه في تهافت الفلاسفة، كان تفكيكاً وهدماً لمنهجية التفكير الفلسفي، لدى نظرائه من المسلمين في عالم الفلسفة ذالك الوقت، وقد قرر مراراً انه لا يُحرّر هنا عقيدة الإسلام حسب رؤيته، ولكنه شرحها في قواعد العقائد، وكأنه يدرج قواعد العقائد كبناء فلسفي للمقابل السُني، ضد ما يدرجهم تحت أهل البدع في الاعتقاد.
أما مسار الفلسفة الآخر الذي نحسب أن الغزالي قد أوقف حياته الأخيرة فيه، فهو حكمة البعد الروحي في أحكام الفقه والأخلاق، وفي ملاومة النفس، وهذه التحريرات التي طغت على لغته في الإحياء، هي ما نقصده بفلسفته الأخلاقية، حتى دون أن يَعُد ذلك فلسفة، ونرى أن الجدل عن كتب الإمام ذات الشأن هل هي فلسفة أم ليست فلسفة، وهل هو فيلسوف او ليس كذلك، لا محل لها، فغلبة الممارسة في هذا المسلك بل وصدارته في جدل مدرسة طوس، يُبصر كالشمس، ولكن النبذ الذي يرد في كتبه، كان بسبب هيمنة الفكرة الكلية عن الفلسفة، عند الجانب الآخر من علماء الشريعة، بأنها كانت مدخلاً لضلال بعض المسلمين، فهي لديه فلسفة مذمومة من اصلها.
وهذا التعميم لا يصدق عند وصف ذلك التاريخ، ولا تداخل الفلسفة مع علوم الشريعة، فضلا عن كون المنطق في ذاته من أصول الاستدلال في الشريعة، مادة حضرت في اجتهاد المسلمين في تحرير أصول فقههم، من رسالة الإمام الشافعي، كما أن الإمام ابن تيمية جادل الفلاسفة، أيضا في سياق مذهبه السلفي، فقد كان يعتمد الاداة الفلسفية ذاتها، ولذلك من الضرورة تحرير هذه المسألة وتبيان الأصل فيها.
وأن عبارات الذم والتضليل الشرس لمجرد تعاطي الفلسفة، قائمة على تصنيف نوعها لدى المتقدمين، وجهل المتأخرين بأحوالها ومنازلها، وليس الأمر لكفر الفلسفة كما يظن بعض الواهمين، وسنعبر مستقبلاً إلى حياة الغزالي بين اتجاهين وأين انقطع طريق الحكمة بينه وبين ابن رشد.