مهنا الحبيل
23/7/2023
صدقيني أيتها الأم الحصيفة، لا تجعلي من ابنتك رجلاً، فإن هذا يكون منك بمثابة تكذيب للطبيعة التي خلقتها أمرأه، بل اجعليها امرأة صالحة أمينة، وثقي بأنها ستكون أصلح بذلك لنفسها ولنا.
جان جاك روسو
يظهر روسو في بداية حديثه عن تربية الأنثى، لغة التنابز الشعبية عن مسؤولية هذه التربية، وهل هي تحت كفل الرجال أم النساء كما يعلن ويلوم المرأة على ملاومتها للرجل في حين أن الأم هي المسؤول الأول، ومهم جداَ أن نحاول فهم خطاب روسو، وشعبويته التي تطرأ في مجمل كتبه، وكيف أنها تستدعي أثر الضمير المحتج على المجتمع، المستغرق في لغة الخطاب العفوي الشرس والساخر، والتي تعكس جزءً من حياته ومعاناته، وتداخلها مع فلسفته.
يعلن روسو هنا جملة من المبادئ يؤكد فيها مذهبه في شراكة المرأة، ومساحتها الواسعة ويرفض استرقاق الرجل لها كخادمة، لكنه يُصّر على منظوره في تحكيم قانون الطبيعة، وأن مساحة العلوم المحتاجة للمرأة، تبعا لأنوثتها هي الأنسب، دون أن يرفض أن تتوسع المرأة فيما دعا له من تأهيل العقل اللماح الذكي، ويدعو إلى تحريك قوة الرغبات لدى الرجل، عبر الأنوثة حتى يتحقق التدافع الإيجابي، بعدها يعرض روسو لرؤية المجتمع الملزمة للمرأة، من حيث دور الرجل في الاعتراف بالمرأة، ولكنه لا ينقده هنا، ويتجاوز عنه بحجة ان قانون الطبيعة جعل المرأة تحت رحمة الرجل.
وهذه قضية يُفتح فيها النقاش مع روسو، فهي محل تباين مع الفلسفة الإسلامية وإن اتفقت معه في أرضية طبيعة الأنثى، فالخطاب الإسلامي الأخلاقي، يُحذّر في دورات عديدة من تجني الرجل على المرأة، ويشدد في مساحة حقوقها الخاصة، واحترام شخصيتها الاعتبارية في التملك المالي، وفي رأيها وإدارة شؤونها وحق مشاركتها العامة، ومن تُوكِل إليه أمورها، ويحتفظ لها بلقبها ولا يلحقها بزوجها، وهنا نحن نحرر المسألة من خلال فقه المرأة في منهج النبوة، خارج صلف الجاهلية الاجتماعية، والفقه المريض الذي انتجته عهود الانحطاط الحضاري للمسلمين.
فهذه الوصاية الضمنية لا شرعية لها في الإسلام، في تقرير مساحة حضور المرأة عبر آراء الرجال المطلقة أو مصالحهم، بل عبر تقريرات الشريعة ذاتها، ومع كل ذلك فإن الوصايا الأخيرة للرسول صلى الله عليه وسلم، ( استوصوا بالنساء خيراً) تشير إلى أهمية دعم جانب المرأة في مواجهة صلف بعض الرجال، ولعل روسو حين يُشير إلى تحكم الرجال في مراتب المرأة، وأنها لا تستطيع تحدي هذا المجتمع، بخلاف الرجل، فهو يشير الى نزعة الإخضاع.
والخضوع هنا له معنيان خضوع التقرب والمشاركة والمودة، الضروري للحياة الأسرية العامة آباء وامهات وبنيهم وبناتهم واخوة وأخوات متحابين متعاضدين، أو خضوع الحياة الزوجية الرومانسية التكاملية بين المرأة والرجل، وهو خضوع مشترك من كليهما.
أما روسو فيُركز على جانب جاذبية المرأة الأُنثى للرجل، ويستطرد في ذلك في تكوين الجسد وتمارينه، وفي الاستعداد للحمل والولادة، وهي رؤية مفهومة من حيث تثبيت قاعدة العلاقة بين الجنسين، لكنه أسرف في ذلك كثيراً، وفي تحديد قوة المرأة أمام الرجل، والاعتناء بزينتها، ورأى أن تربية الأديرة أفضل من تربية البيوت، بسبب التدريب وبعض الخشونة، التي تعطي الفتيات قدرات أكبر، لإدارة بيت الحياة، وكأن ليس للمرأة مهمة غير هذه.
ويُلفت روسو للطبيعة المختلفة لمهمة المرأة ومهمة الرجل، التي يجب أن تراعى في مسار الرياضة، وهذه قضية سبق أن ناقشناها في مقال سابق لصحيفة الوطن، بعنوان الرياضة النسائية بين مفهومين.
ويعلن روسو موقفاً عجيباً في عالم اليوم، يُظهر فيه اعجابه الصريح في التربية الإغريقية القديمة، لأنها تعزل الفتيات في المحافل العامة، خلال تأديتهن طقوس وأناشيد الاحتفالات، ويُبرر ذلك بأنهُ أدعى لتعود الفتاة والشابة بعد الزواج، لتهتم ببيتها وتطوي ذاتها عليه، ويؤكد بأن ثقافة نساء الرومان بسبب اتباع ذات التوجه الإغريقي، يمثلن النموذج المنتخب لديه، وهنا نؤكد أن روسو لديه نزعة اسراف في تأطيره للمرأة، تتجاوز في تقديرنا حد العفة ومفهوم الشراكة التكاملية البيولوجية.
ولعل هناك سببا ذاتياً لاندفاعه، نتيجةً لما كان يتابعه من بوابات الانفتاح الضخمة في ذلك الزمن، فاتخذ روسو موقفاً متحفظاَ ضده، خشيةً مما قد تؤول له الأمور في كارثة تسليع الأُنثى، كمادة للحياة التجارية في الغرب، وتحويلها سريعا في الثورة الرأسمالية إلى أيقونة استقطاب جنسي، في عالم الإباحية المظلم واضعاف الرابط الزوجي، وهو ما حصل بالفعل في تنوير الحداثة المادية.