مهنا الحبيل
6/12/2022
أزعمُ أن هناك إرثاً ضخماً سقط من تاريخ المعرفة اليوم، وشكّل مساحة فراغ مركزية، في تحديد دوافع تحرير الفلسفة الغربية المعاصرة، وجدل حركة التنوير مع ذاتها، والتوقف عند عواصف المشاعر والتحولات الضخمة، أو الأفكار المتصادمة، مع أنها أضحت جزءً من الميراث العالمي، الذي يُعمّم على القرية الكونية، وعليه استؤنفت مسارات حديثة، وظل النقدُ في هامش هذه الفلسفة، يدور حول هذه الرحى.
وهذه مهمة كان من الممكن أن تقوم بها، رحلة الاستغراب الشرقية، التي لم تُغادر موقع الدعوات لإنشاء هذا العلم أكاديمياً، وإخراجه إلى عالم الحضور، رغم أن بعض ما كُتب من فلاسفة الشرق المتأخرين، يُدرج ضمن مهمة الاستغراب، وهو إعادة نقد وتحرير إرث هذه الفلسفة الغربية، أو على الأقل شخصياتها البارزة.
وكان هذا النوع من النقد، سيساعد للخروج من حالة التقليد المتراكمة، والتحول عن ذلك المدح المطلق، والذي تراه مرصوصاً، في سجلات الترجمة الحديثة، لسلسة كتب هذا الفيلسوف أو ذاك، دون تحرير رؤية مستقلة ناقدة لأفكاره.
وتُمثّل حياة الفيلسوف الفرنسي دنيس ديدرو، نموذجاً مهماّ لعلاقة اللاهوت المسيحي بحياتهم وبأفكارهم، ونلاحظ هنا أن هذا التأثير، لم يكن يقتصر على حالة الرفض لوصاية الكنيسة فقط، ولكنه متداخل في الذات الشعورية للفيلسوف، وهنا نجد أن ديدرو نشأ في الأصل، في أجواء كنسية، وكان رجل دين في مطلع حياته، قبل أن يتبرأ منه والده المسيحي المتشدد، حين بدأ يتخذ طريقة الكتابة الحرة.
وعاش ديدرو سلسلة من التطورات في حياته الشخصية والفكرية، كان منحازاً للتنوير، والثورة على سلطان الكنيسة ومواجهتها، بل إنه دخل السجن بسبب رسالته في العمى، وواصل تحرير رؤيته في كتاب (الأفكار الفلسفية) وغيرها، وفي كتاب الراهبة انعكست مشاعر الأسى الشخصية على فقدان أختيه، حيث توفيت أحدهما في أحد الأديرة، ولعل ذلك بحسب ترجمته، عزّز غضبه الكامن على الكنيسة.
في حالة ديدرو كما هو غيره، تجد أن أولئك الفلاسفة الثائرون، يتوسعون في علاقة المتعة الجنسية، مع مجموعة من الحسناوات دون زواج، أو يختصصن بأحدهن كما هو حالة روسو مع تريز لوفاسور، وكيف أن هذا الأمر يشرّع بناء على الثورة ضد الكنيسة أو اللاهوت، والسؤال هنا لماذا لم تكن العلاقة الزوجية النبيلة، والسكينة فيها، هو من مخرجات فكر ذلك الفيلسوف، رغم أن ديدرو حافظ على رباطه الزوجي، وأسمى ابنته الوحيدة أنجليك، وكان متأثراً بحياة أخته ووفاتها في الدير.
تسببت أفكار ديدرو في مواجهة مستمرة مع الكنيسة، حتى أن أحد كتبه لم يُسمح له بالنشر حتى وفاته، وجمعت حياته بين الحالة (البوهيمية) أي ممارسة التشرد، وهو مصطلح أستُدعي من حياة الغجر في أوروبا، وبين سعيه لتثبيت مجمع موسوعي، لكنه خُذل فيه، لكن كاترين الثانية رعته في رحلته إلى روسيا، وكان مخصصه المالي جيداً كمدير للمكتبة الوطنية، قبل أن يتوفى، ويثور جدلاً عاصفاً ومعارضةً شديدة لرفض دفنه في مقبرة عظماء فرنسا.
في كتابه مسير المشككين، إتخذ ديدرو موقفاً فلسفيا يرفض الإلحاد ويدافع عن وجود الرب، يبدو هذا المنعطف، متضارب مع موقفه الشرس ضد الكنيسة، وكفاحه ضد تسلطها، وهو ظاهرة تشمل عدداً من آباء الفلسفة الغربية المعاصرة، لكن هناك مرحلة انقطاع غامضة، عن غياب هذا المعنى في مآلات الحداثة الأخير، والتطرف الذي وصلت إليه، ونحن نطرح هذه التساؤلات، لفهم أثر هذه الازدواجية الغامضة، في الاضطراب التفكيري، الذي لم يفكك حتى بعقل مستقل.
إن الجامع هنا بين المؤمنين بالرب، المقاومين للكنيسة، هو أن تلك النخبة رفضت حضور الكنيسة، في الحياة التشريعية، بسبب إرث استبدادها ورفضها للعلوم العقلية والمعرفة، وهذا مستفيض في تاريخ التنوير الغربي، الذي رفض الدين في مساحة الحياة، لكنه بقيَ حتى اليوم حاضراً في ضمير الإنسان الآخر.
غير أن هذا الإيمان بالرب، رغم أنه يحمل صرخة احتجاج على الإلحاد، واستدعاء للإيمان الروحي، لكنه (ربٌ) محتجز عند هذا الفيلسوف، وليس السبب منحصراً في تقديري، لغرض ردع الكنيسة من استخدام التشريع باسم الرب، ولكنه أيضاً في حالة الانقطاع وفقدان الدين الأخلاقي، والنزعة التي تغشى أئمة التنوير الفلسفي، لكي تَبقى نزواتهم مطلقة غير مقيدة بحدود، ولذلك ورغم تفاصلهم المفترض مع فكرة الإلحاد العدمي، والذي يُفسّر الوجود بالصدفة ثم المادة المطلقة التي لا روح فيها.
إلا أنهم وعلى الأقل في مجموعة منهم، حيّدوا قيم التشريع المفترضة، التي يجعلها الله كموجد للكون، قوانين في إطار مصلحة البشرية، فالبعدُ الأخلاقي هنا، مزعج لحرية النزوة الشخصية، فهو يوجه الفرد نحو الإحسان والنظافة الروحية والجسدية، وهذا يمنع الفيلسوف المقصود في حديثنا، من الاستمتاع بشهوته والتشريع لها، في ثورته التنويرية المفترضة.
ولا أعرف ما معنى أن تضاف رواية ديدرو (الحلي المزيفة) إلى قائمة الإبداع وتدرج في رحلة فلسلفته، وقد كتبها بناء على تحدي عشيقته حين احتاجت لمال إضافي، وهي تقوم على حقيبة اعترافات جنسية، لحشد من النساء، يعرضها سلطان سحري، وما نقل عن ديدرو بأنه لن يكتب مثلها، وأنها حالة شاردة، يُلقي مزيداً من الشك، على تأثير حياة الصراع والشك والنزوة، في تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة.
لعل هذا الفارق هو الذي برز للمستشرقين، عن فكر الشرق ولم يوصلوا تحريره، فهو لا يتناسب مع مهمة تكليفهم الوظيفي، غير أن الفكرة التي انتقلت بين أجيال اكاديمية متعددة، كانت تستدعي خطيئة محاولة استنساخ موروث الكنيسة على الإسلام، وهو سقوط علمي وأخلاقي، فمع وجود حشودٌ سيئة من فقهاء الاستبداد والتشدد ضد حرية العقل، إلا أن رواية الإسلام الأصلية، وتجربته التاريخية، تقدم نموذجاً للإنسان والدين، يختلف عن تناقض الكنيسة والرب والفلسفة والنزوة.