Categories: مواد فكرية

مقدمات حول دراسات ما بعد الكولونيالية

مهنا الحبيل

 بعث لي أحد الزملاء من الباحثين المرموقين، ورقة بحث حديثة لإبداء الرأي، تتناول الورقة دراسات ما بعد الكولونيالية وموقع وائل حلاق وادوارد سعيد فيها، في إطار تقييمي لجهود كل منهما، وأين يقع السياق البحثي في تحديد منجز المشروعين لكلٍ من سعيد وحلاق، وألاحظ اليوم أن هذا الجدل مستمر وله تأثيره الخاص، في توجهات الشباب البحّاثة وفي بعض الأروقة الأكاديمية، مما يستحق إعادة الكتابة عنه بعد مرور 4 أعوام من صدور (كتاب ادوارد سعيد ووائل حلاق جدل ثالث).غير أني مع التأكيد على تميّز كلا القامتين الكبير، أتحفط على البقاء تحت ظلهما، وأؤكد على أهمية كسر التقليدية البحثية، والعبور الى دراسات أكثر عمقاً لموضع الصراع الفلسفي ومقابله الإسلامي، وأدق تحديداً لنطاقات التوظيفات التطبيقية لسياسة الدولة الغربية الحديثة، وأثرها المباشر في نقض منظومة السلام العالمي من الأسرة حتى المجتمع الدولي.ونستحضر اليوم الدوامة التي يعيشها العالم والفوضى الخطرة، التي تحكم علاقات دوله، بعد صعود اليمين المتطرف لسدة الحكم، فهل كان التجريف الذي أحدثته المنظومة اللبرالية قبل صعود اليمين الأخير، ميزاناً أكثر عدلاً وأخلاقاً، أم أن كلا الجانبين جسّدا قوة الهدم الإنسانوي للعالم الجديد، الذي تشكل بعد الحربين العالميتين.      في هذا السياق أرصد إشكالية جامدة مصمتة في الرواق الأكاديمي الغربي، والمؤسسات البحثية المتأثرة به في الشرق، وهي غياب المراجعات النقدية لأصول البحوث الفلسفية وشروطها، ووضعها في ميزان المسائلة، في سبيل الوصول الى أرضية معرفية جديدة يحتاج لها هذا العالم المنكوب، سنجدُ هنا فراغاً ضخماً بين معطيات الجدل الفلسفي الأخلاقي، أكان صادراً من تيارات الفلسفة الغربية الأخلاقية ذاتها، أو كان ضمن حصيلة النقد والتفكيك المهمة في عالم الشرق، وفي اتجاهات الاستقلال الحديث، الذي من أهم صفاته الخروج من هيمنة القوة الثقافية، لمراجعة منظومة الإرث الأكاديمي وإصداراته الأخيرة اليوم وليس بالأمس فقط.      وربما حُسبَ لحلاق مبكراً، أنهُ أدرج الانحياز الأكاديمي المتطرف في الغرب، ضمن نطاق (الكولونيالية) القوة الثقافية المهيمنة على العقل العالمي ومنصات الجدل الفلسفي فيه، فهل نحن اليوم تجاوزنا ما بعد الكولونيالية، أم أننا في دورة جديدة لها. ذات السؤال انتهيت اليه في الجدل الثالث، هل هناك زمن لما بعد الحداثة في داخل المنظومة الفلسفية الغربية، التي اعتمدت العقل التجريبي والمادية المطلقة ركنين حصريين للمعرفة، فهل ما بعد الحداثة منفصل عنها أم متصل بها؟      الجانب الآخر الذي تعاني منه دراسات النقد الفلسفي الحديث، في الجانب المشرقي وخاصة المسلم، هي أنها لا تزال تعتمد أدوات الأكاديمية الغربية، حتى أنك لتعجب في مثال بسيط، أنها رغم نقديتها الهجومية لقهر الأكاديمية الغربية، إلا أنها مقلدة لها في موازين المراجعة والتحكيم، وحتى في أصول المخاطبة. فتجد تحية طيبة عند المراسلة ولا تجد السلام عليكم على سبيل المثال، وهذا النموذج رغم بساطته هو في الأصل يمثل قيمة فارقة في التحية والتقدير التي تشمل المسلم وغير المسلم، ولكن يبدو أن الشعور بالنقص أو عدم الثقة بإمكانية الاعتماد على معايير الذات الشرقية الحضارية، في عالم الفلسفة الجديد لا تزال تؤثر على مهنية هذه المؤسسة أو تلك، في حين تميل المؤسسات العربية الأخرى، ذات المعايير العلمانية الى تقليدية مصمتة في إعادة وتضخيم الموازين الكلية الغربية، وفي رفض الإنتاج النقدي الحديث لمسلماتها. وهو تقليد غريب إذ إن كان تنحية المطلق الديني هو أولوية لهذه المؤسسات، فلماذا لا يكون تنحية المقدس الوضعي الغربي، أولوية أيضاً لتحرير المعرفة الجديدة! كمنظور بحثي مستقل، ينظر في مآل العالم تحت نظريات المعرفة بين القديم والجديد.      إنك لا تعجب أن مقابل هذا التمسك الجامد بكل الإرث الغربي، بما فيه مراجعات الغربيين لمدارات المعرفة الشرقية، حتى ولو كان العبور للمعرفة اما مرتبطاً باسم المؤلف الغربي، أو اسم من صدّرته الأكاديمية الغربية، أو عالم الترجمة حولهم، هو المصدر المعرفي الوحيد لتحقيق أهلية الفلسفة.      في حين أن فكرة الانتقال من المطلق المادي ورفض الروح، تتفكك قدسيتها اليوم في الشمال الأمريكي والأوربي، من خلال تعدد محاولات التمرد والاستقلال العقلي عن المقدس الوضعي، والنظر في حقائق المعرفة الأخرى، ورغم أن هذا التمرد لا يزال في صورة أساتذة وباحثين كثر لا مؤسسات، غير أنهم لم يستطيعوا كسر الجدار الأكاديمي المتطرف وانحيازاته القائمة حتى اليوم.      إننا اليوم نحتاج لتحقيق معادلة العبور الفلسفي إلى أرضية جديدة، فهل هذه الأرضية قائمة، وهل محاولات البعث الفلسفي الإسلامي الجديد، تجد طريقها المفترض، أم أن هناك بعداً آخر يقطع عليها الطريق ليس من الغرب، ولكن من أزمة الصراع الفكري الداخلي المتجدد في الشرق المسلم. مهن

mohana63

Recent Posts

السياحة والنظافة والحضارة

السياحة والنظافة والحضارة مهنا الحبيل بدت لي أزمير محطة مهمة لبدأ الرحلة التركية البرية، كان…

5 أيام ago

السياحة الفكرية في تركيا

السياحة الفكرية في تركيا مهنا الحبيل تأخرت رحلتي السياحية بين المدن التركية عشرة أعوام، حيث…

5 أيام ago

الأخلاق والعقوبة بين برنارد ماندفيل والفاروق عمر

الأخلاق والعقوبة بين برنارد ماندفيل والفاروق عمر مهنا الحبيل يستشكل البعض في توسيع رؤية المقاصد…

5 أيام ago

سؤال الدولة الاسلامي والاستئناف الفكري

سؤال الدولة الإسلامي والاستئناف الفكري مهنا الحبيل وقفنا في إعادة تحرير النموذج الماليزي على سؤال…

5 أيام ago

أبو بكر الصدّيق في عالمنا اليوم

أبو بكر الصديق في عالمنا اليوم مهنا الحبيل إن العودة للحياة الإسلامية الأولى، وخاصة الصدر…

شهر واحد ago

المرجع الأخلاقي للعالم الجديد

المرجع الأخلاقي للعالم الجديد مهنا الحبيل إن المقياس الذي يعكس بدقة، حقيقة الكوارث التي يعيشها…

شهر واحد ago