من أسقط عمران خان؟

مهنا الحبيل

12/4/2022

حُسم الامر في إسقاط قائد حركة إنصاف ورئيس الحكومة في باكستان عمران خان منذ قرار المحكمة العليا، أُشعل الضجيج وخاصة في الرواق العربي من أن قرار العزل كان بسبب موقف واشنطن الرافض لتوازنات عمران خان من الحرب الأوكرانية الروسية، وهي قضية ثبّتها عمران خان لتحشيد الرأي العام الشعبي من حوله، رغم أنه كان يعلم أن قرار عزله ولو وافق مزاجاً غربياً قلقاً من صعود خان، وسياساته المستقلة لتغيير خط إسلام اباد نحو النهوض الداخلي التدريجي، وربطه بسلة توازنات خارجية تسمح لباكستان بالتنفس خارج الناتو، إلا أن قرار إطاحته كان بقرارٍ من الجيش.

ويعلم خان أن مواجهته للجيش وقد بدأ بقيادة حركة احتجاج بعد عزله تأخذ صداً شعبياً واسعاً، قد تُنهي حياته السياسية وليس فقط عزله، وهي مراهنة باتت تحت رياح الخريف ومعادلات الجيش القوية، التي تحدد حركة الصعود والهبوط في المسرح السياسي وتملك القوة التأثيرية الأمنية الكبرى، والنفوذ السياسي، فضلاً عن أن الجيش يحظى أيضاً بقناعة شعبية، في الدولة المسلمة الإستراتيجية في آسيا الهندية، والتي تُعاني من ضغوط مستمرة ومن ميراث حروب ومواجهة نووية مع الهند، فضلاً عن وحدة الأقاليم الداخلية، والعبور من أنفاق الصراعات الإقليمية حولها.

هذه الحجة استثمرها الجيش الباكستاني لتقنين الحياة السياسية قديما، لتكون له اليد الطولى في المسرح إن لم يحكم بصورة مباشرة، كما كان في زمن الراحل ضياء الحق وبرويز مشرف، وبالتالي منع صعود أي قوة سياسية ذات قاعدة شعبية، للوصول إلى زعيم قوي يقود الدولة بفكرة مدنية متجذرة بالتأسيس الإسلامي لباكستان.

حيث ارتبط الإسلام بهويتها القومية، منذ كفاح مسلمي الهند ضد الاحتلال الإنجليزي، وبعد الانفصال في دولة قومية تخصهم، والتي خاضت حروباً وصراعات كبرى مع الهند التي حكمتها الغالبية الهندوسية ومع الشقيق البنغالي حيث رسمت خارطتهما القوة الاستعمارية، ففرقت قوة المسلمين لضمان إضعافهم.

ورغم أن القوة المدنية كانت هي المحرك الأساس لاستقلال باكستان، سواءً في رحلة محمد علي جناح أو في مفاهيم الفكرة القومية للوطن الجديد لمسلمي الهند، في فلسفة محمد إقبال الإسلامية، إلا أن واقع الحياة السياسية الباكستانية لم يتشكل بحسب ذلك الحُلم المشترك، فباكستان التي كانت ضمن أقاليم المسلمين في الهند، خضعت للقوة العسكرية الكبرى للاستعمار الإنجليزي، والتي سعت لاحتواء روح الكفاح القومي في الهند بشقيه الهندوسي السلمي الذي قاده غاندي وبثقافة كفاح المسلمين، الذين اشتركوا عبر محمد جناح وغيره مع غاندي، لأجل وطن موحد وأقاليم تضمن الأمن للمسلمين، غير أن قلقهم من صعود التطرف الهندوسي ورهان لندن عليه، حوّل كفاحهم لأجل الاستقلال، وهو حِدسٌ يُصدّقه واقع المسلمين في الهند اليوم.

ومنذ خطاب الاستقلال 1947 الذي ألقاه محمد علي جناح حتى اليوم، تعرض الميلاد القومي لضغوط ومراقبة شديدة من المركز الغربي، والصراع مع التوأم السابق في الهند الهندوسية، الذي لا يزال يتغذّى من التطرف، والذي تحول بعد ذلك للعبة في الإقليم دَخَلَ الجيش الباكستاني فيها طرفاً مشاكساً ومشاركاً مع الغرب، تمثل في دوره في أفغانستان والصراع مع الهند لأجل كشمير المحتلة.

وهو ما يعني حساسية تقدير موقف الرأي العام الباكستاني للجيش، الذي لم يسمح للحياة السياسية أن تتنفس خارج اللعبة، وهو ما كرّس الفساد السياسي وساعده في الهيمنة على الحكم، فإذا لم يحكم كما في حالة ضياء الحق ومشرف، فهو يدير المسرح السياسي يحسب مصالحه التي تحتج بأمن باكستان القومي، ولكنها مرتبطة أيضاً عبر قوة عميقة في الجيش، بكل أدوات المسرح السياسي والبازار المتنفذ، وهي في ذات الوقت تواصل تنسيقها مع الناتو وواشنطن.

فإذا اقتربنا من قعر المشكلة في عزل خان، فيبرز لنا ذلك التاريخ وهو تحالف محمد علي جناح، والفيلسوف محمد إقبال، نلاحظ هنا أن جناح عاش حياته بين الطبقة السياسية اللبرالية في الهند وبريطانيا، وعايش المؤسسات الحاكمة والمعارضة في الهند، وفي قلب التاج البريطاني، ولم يكن جناح شخصية دينية مطلقاً، ولكنه كان ينظر من موقعه كشخصية من أبرز وأذكى محامي الهند، إلى المسالة المصيرية لمستقبل مسلميها، وهو حينها ينظر إلى طبيعة المكر الإنجليزي وتلاعبه بالمشهد، وقد عُرف عنه قوة اعتداد بنفسه وشخصيته الممثلة لمسلمي الهند، دون أن يرابط في مساجدهم.

ولكن اتصاله بإقبال شكل لديه قوة إيمان في حقيقة المعركة، ومع أن إقبال كان مفكراً إنسانيا، يؤمن بالحداثة الإسلامية، التي تستوعب إيجابيات التقدم الغربي، إلا أنه كان يرى أن هذا التقدم الإنساني الإسلامي مخنوق بقبضة الغرب، وأن التسامح بين مكونات الهند هو شريعة إنسانية للإسلام، لكنه لا يعني القبول بخطة الهندوس المتطرفين والتاج البريطاني، فميلاد الدولة الجديدة كان بمشاعر إسلامية حاشدة ولكنه بعقل مدني ذكي، آمن بدولة مستقرة محمية تستفيد من الحياة البرلمانية لتحقيق دولة الفكر في حلم إقبال.

هذا لم يتحقق، وحاصر الجيش نهوض الدولة المدنية التي لا خلاف بين أركانها وشخصياتها، من أن الإسلام هو القيمة العليا وهو الهوية، لكن تعامل الجيش مع الجماعات الدينية وصراعات المعارضة، لا يُقارن بقوة سياسية فكرية تؤمن بفصل السلطات، وتخصيص قوة الجيش للحماية كرديف للدولة القومية الناهضة، التي تنافس الهند والغرب معاً في قوة الصناعة والتقدم الوطني، لشعب زاخر بالمبدعين وفي منطقة حساسة للغرب.

هذه بالضبط فكرة صعود عمران خان الذي جاء من إدراكه العميق للتفكير الغربي الإستراتيجي، وفي ذات الوقت قفزت لديه روح جناح، قد يصدق نقد بعض معارضيه من شعبويته، ومن تعثر خطط الإصلاح التي كان يهيمن على سوقها الجيش، غير أن فكرة خان في ميلادٍ جديدٍ لباكستان، كان هو القول الفصل في إسقاطه.