Categories: مواد فكرية

من اغتال مالك بن نبي؟

مهنا الحبيل

كان المدخل للعودة الموسعة لفكر مالك بن نبي رحمه الله، هو الوقوف على أزمة العالم الإسلامي اليوم من جديد، وقراءة المؤسِسات الأولى لدعوة البعث الإحيائي لنهضة الأمة، أين تقدمت وأين تأخرت، وهو سؤال كبير، ينتهي البحث فيه لصدمات عديدة، في بقاء أصل هذه الإخفاقات في واقع الأمة اليوم، والذي قد يختلف في بعض شخوص الخصوم، لكنه لا يختلف في إشكاليات النهوض، وثقافة الإعاقة فيها، بعد مرحلة الصحوة الإسلامية، وانتشارها الضخم، الذي أعاد المسلمين إلى فكر مالك بن نبي رحمه الله، وفلسفة النهضة لديه.

 ولكن الأصول التي طرحها مالك بن نبي، في الخروج من الصندوق المغلق في فكر النهضة، والتحرير العقلي المقاصدي، لا تزال مستمرة، وبالطبع هنا مسيرة واسعة لنقاش هذه الأزمة، لسنا في صدد عرضها اليوم، ولكني لاحظت أن هناك تداخلاً شديداً بين رؤية مالك بن نبي وحياته الشخصية الصعبة، وكفاحه السياسي والاجتماعي، واشتباكاته المعقدة، ليس فقط مع المستشرق الفرنكفوني الضخم، لويس ماسينيون، والذي قصة مالك بن نبي معه مهمة لنفهمها اليوم، ولكن مع مسارات أخرى.

       فتوثيقات مالك بن نبي التي لا يتطرق لها الشك، إلا بدعوى أنه يكذب وينسج من خياله، في لقاءاته مع ماسينيون، وفي سعي آخرين لرده له، وفي حصاره الوظيفي والعلمي، ومعانته القاسية، وهي دعوى تسقط علمياً بحكم أن مالك بن نبي، قد أصدر هذه المذكرات، وانتشرت وكان معه شهوداً حولها، فهي حقيقة كبرى، من علامات رحلة مالك بن نبي.

       لكن الحكاية لم تقف عند هذا الحد، فمراجعتي لمذكرات مالك بن نبي، قادني لها نظرياته الكبرى ذاتها، حيث كان في مشكلات النهضة وغيرها، يستدعي الجزائر وأزماتها العديدة، فضلاً عن رحلته الواسعة في المشرق، وبالذات في مصر، وهي مرحلة مهمة جداً من حياة مالك بن نبي، نزع فيها الى التحالف مع مشروع جمال عبد الناصر، وحلفائه في آسيا وأفريقيا وتشجع كثيراً لدعم مبادرتهم، كونها كانت تمثل حالة تمرد شرقية ضد تلك الهيمنة الغربية الشرسة، بل والإرهابية التي كانت تصب على الجزائر.

       كما أن موقفه المختلف عن عبد الوهاب المسيري، في المسألة اليهودية، لاحظت أنها تأثرت من حياته الشخصية، إضافة لكون المشروع الصهيوني، حليف مقرب للفرنكوفونية الاستعمارية، وقد تقاطعت الأحداث بينهما في حياته في الجزائر وفرنسا، وبالتالي لاحظت أثر ذلك في رؤيته الكلية للقضية اليهودية، على اتجاه معاكس للمسيري، فاليهود هم الفاعلون المهيمنون، والمسيطرون الأسطوريون على الغرب، وليسوا مهمة وظيفية للقوة الدولية الامبريالية الغربية، بعهدها المسيحي القديم، وبروحها الحداثية التي مارست التقدم الإبادي، من القرون الوسطى حتى العهد الجديد للحداثة، استُثمرت مهمة هيكل بني اسرائيل فيها، وهي رؤية المسيري.

       وهناك تفصيل مهم بين الرؤيتين قد نعود له مستقبلاً بعون الله، كما أن حياة المسيري التي تقاطعت هي أيضاً مع فكره، في رحلته الماركسية وفي تجربته اللبرالية، ثم في تقاطعه مع المشروع الناصري، وعلاقته بالأستاذ محمد هيكل رجل عبد الناصر وواجهته الثقافية، كانت ذات حضورٍ زمنيٍ كبير في رحلة المسيري، لكن كان هناك فرق واضح.

 وهي أولاً أن حجم المحنة التي صبت من فرنسا ماسينيون، ومن (الجزائر) التابعة لها، على مالك بن نبي حسب مذكراته، بل ومن القوى التي كانت تمثل واجهات وطنية، مرتبطة بحراك التحرير الوطني والمؤتمرات والفعاليات السابقة له، في سجل ثورة الجزائر.

 نحتت بقوة في ذاكرته، وأثرت قطعاً على حدة طبعه ورؤاه، والتي قد تكون تسللت لفلسفته الفكرية، فكان من الضروري أن نراجع بدقة هذه الحياة، ونفرز الإرث المعرفي فيها، وهل أثر سلباً وأخطأ فيها غضب بن نبي، أم أن خطايا الآخرين عليه، هي أيضا حكاية مشتبكة مع مشكلات النهضة، وبالتالي لا يُمكن أن نفرزها بعيداً عن عين الرؤية البحثية، والتي لا يمكن أن تُفهم دون العودة الى مذكراته، التي اسماها (العفن) وأصر على أنها تتطابق مع ذاكرته، التي ركزت على التاريخ الوطني والاجتماعي بين الجزائر وفرنسا.

 والتي يُصدم القارئ من حجم الكليات الحتمية، التي قررها مالك بن نبي على (الحراك الوطني) في الجزائر، وعلى جمعية العلماء التي رآها أمله الكبير عند بداية مشواره، وظلت رسائله الإيجابية عنها تُطبع في كتبه، وعن إمامها عبد الحميد بن باديس، رغم نقده الحاد الذي وصل لبن باديس، وإن خصه بمكانة مختلفة، عن كتلة الشيوخ الممثلين للثقافة الإسلامية التي صدرها الأزهر والزيتونة، وحمّلَهما إثم الفكرة العقيمة في ظنه، التي تأخر بها الوعي الإسلامي النهضوي، وهي تعميمات خطيرة، لا يمكن أن تُسلم لمالك بن نبي.

 ولكن في ذات الوقت لا يمكن أن تُغفل دوافعها، وأهميتها لنا في فهم مشكلات النهضة، عند مالك بن نبي في الإطارات الدينية ذاتها، وفي موقعها الأخلاقي.

 ثم في القسم الخاص بالحركة الوطنية في الجزائر وهجومه الشرس على مصالي الحاج وابن جلول وفرحات عباس، وغيرهم، ووضع هذا الوصف للكتلة المنحرفة، بحسب وثيقة مالك بن نبي كعمقٍ للأزمة، وفي حين يظهر لك مالك بني نبي مجاهداً فكرياً نحت الصخر، لإخراج أبناء شعبه وخاصة المهاجرين في فرنسا، من قبضة أدوات القهر الفرنسي، والتي تمثل لديه وسائط تمكين القابلية للاستعمار، وهي نظريته التاريخية المتوازية مع شروط النهضة.

       حيث شحذ كل فرصة لسبيل تعليم شعبه في باريس، وبعد عودته للجزائر، فهنا كان تفكيره في الانتحار مع زوجته الفرنسية العظيمة الوفية، يشير إلى سر التعقب الذي طارده بشراسة حتى رحيله، وهي خيطنا الذي نواصل البحث فيه، لنعود بعد ذلك لبعثه الفكري ونقده، وأين يبعث فكر مالك بن نبي في رسالة الاستئناف الحضاري الإسلامي الجديد.  

 

mohana63

Recent Posts

العقل المعرفي..الفارق الفلسفي الإسلامي

العقل المعرفي.. الفارق الفلسفي الإسلامي مهنا الحبيل في رحلة الجدل الفلسفي المعاصر، تختط قواعد المقارنة…

4 أيام ago

أفق السلام الكردي_التركي

أفق السلام الكردي-التركي مهنا الحبيل أياً كانت القراءات المختلفة، لموقف دولة بهتشلي القائد القومي التركي…

4 أيام ago

فرض الديمقراطية الدموية

فرض الديمقراطية الدموية مهنا الحبيل يفكك روسو التحديات التي تواجهها السلطة الاشتراعية، وخاصة كونها القوة…

4 أيام ago

أصحاب الظرف الخاص في مجتمعاتنا العربية

أصحاب الظرف الخاص في مجتمعاتنا العربية مهنا الحبيل هل توقفت يوماً عند ذلك الطفل، الذي…

4 أيام ago

رسالة للزواج الجديد

رسالة للزواج الجديد مهنا الحبيل يبدو عنوان البرنامج الوقائي، لوازرة التنمية الاجتماعية في قطر، مهم…

4 أيام ago

الديمقراطية التي تحمي السيادة

الديمقراطية التي تحمي السيادة مهنا الحبيل يعرضُ روسو لطبائع الشعوب وما يُلائمهم من حكومات، كسلطة…

4 أيام ago