من المسؤول عن تفجير كوكب الأرض؟
مهنا الحبيل
من الغريب أن كتاب د. آلان غريش “الإسلام والجمهورية والعالم” لم يأخذ صداه المستحق عربياً وعالمياً وربما فرنسياً، رغم أن فرنساورحلة الصراع الاجتماعي فيها بين الإسلاموفوبيا والعدالة الدستورية -بمفهومها المطلق- كانت منطلق كتاب د. غريش.
ولكن ما يُسجل لباريس أن الجدل الثقافي هنا لا يزال فاعلا، بل ضاغطا في تأثيرات المعركة السياسية الاجتماعية، وما هو جدير بالوقوف عنده أن هذا الجدل الذي ساهم في منع مارين لوبان من الوصول إلى قصر الإليزيه، غاب تماما عن الرواق الأميركي الذي صعده يميني متطرف، يُظهر المشهد السياسي الأميركي -يوما بعد يوم- قناعته بكارثية انتخابه، وأزمة التخلص من عهدته التي تستنزف علاقات المواطنة الأميركية، وتعرّض قيمها المتبقية ومصالحها للخطر، من خلال قرارات عشوائية قد يتخذها الرئيس دونالد ترمببكلفة كبيرة، لا يُمكن أن تُجرد حساباتها بسهولة.
في فرنسا قُطع الطريق على هذا اليمين، لكن أسئلة الإنسان والحياة والدين والعدالة الاجتماعية مع المسلمين لا تزال متوقدة، ويتابع عرضها د. غريش في صفحات وفصول منتظمة معززة بالإحصائيات، ومتداخلة مع تفسير النظريات الاجتماعية لجذور فكرة الصراع مع الإسلام في فرنسا. ويربطها -بصورة علمية منهجية- بثنائية نزعة الحصار الوقائي للعنصر الأبيض، والخشية من الآخر وفكرة الكراهية المستترة في داخل البنية الاجتماعية لفرنسا بيسارها ويمينها، ومنذ رحلة الصراع الكنسي/الجمهوري.
والجانب الثاني هو تعزيز الأزمة أو إعادة تخليقها عبر ما ينشأ عن هذا المكنون السلبي من المشاعر والأفكار الاستباقية، وبين ما يجري من سلوك عملي مارسته السلطات الفرنسية على مناطق وأحياء المهاجرين المسلمين، وكيف كانت تلك الممارسات فاعلاً أصلياً في قولبة العزلة الشعورية، ودفع الشباب الذين قد لا يمارسون الشعائر والعبادات الإسلامية، وربما يتعاطون المحرمات.
ثم يجدون أنفسهم -بناءً على سِحنهم أو مناطق سكنهم، المصنّفة للمهاجرين القدماء، أو الفرنسيين من خارج أصول أوروبا- تحت كوتا محددة، تتعامل معهم عبرها المؤسسات الفرنسية الرسمية وخاصة الأمنية والإعلامية، رغم صرامة التعليمات الجمهورية التي لم تضمن لهم اليوم معنى كرامة الفرد وحقوقه، بغض النظر عن أصوله.
وهنا لا بد من التذكير بمسألة الخلط التي تجري، وحاجتنا إلى توضيحها الدائم، وهي أن ذلك الانحياز وتلك الممارسة لا تبرر أبداً جرائم “داعش” المستمرة أو السلفية الجهادية، ولا تبرر التأصيل الثقافي الديني لها ضد المجتمع المدني الغربي لاستباحته، كما أنها لا تُنكر التقدم الحقوقي في الحياة السياسية الغربية المعاصرة، ولا تلغي واقع العالم الإسلامي المتخلف ودور الاستبداد فيه.
لكن هذه الاستنتاجات والرحلة التاريخية تُظهر بوضوح تَغلغل فكرة العداء الذاتي أو التحفز الكريه ضد مجتمعات المستعمرات السابقة، وتسرُّب تلك المشاعر إلى ثقافة المجتمع الفرنسي، ودورها في الحصار القانوني لسلاسة مواطنة هذ الجزء القومي أو الاجتماعي من الشعب الفرنسي.
وهي بالضبط المعادلة التي وصل إليها د. إدوارد سعيد في سلسلة تفكيكه لقواعد الاستشراق المنحاز، وتأثيراتها في الولايات المتحدة الأميركية ومنطقة الإنجلوساكسون، منذ تدوينات مفكريه الأوائل وحتى نهاية السياسات الاستعمارية الحديثة في حرب العراق قبل وفاة د. سعيد (تأمّل في تطابق النتيجة بين دراسات د. سعيد ود. غريش الفلسفية).
لكن هناك زاوية مهمة جداً بل هي ملف ضخم يستعرضه د. غريش في مسارين مهمين لعلاقة الدولة الفرنسية بالتاريخ الكنسي، الأوّل أن حالة الاستفزاز المباشر -التي تُوجّه ضد المسلمين والإسلام- لم تكن محررة بهذه الصورة مطلقا في نموذج السياق الكنسي، وقد وثّق د. غريش ذلك عبر استدلالات تاريخية متسلسلة.
وهنا لسنا بصدد التهوين من حق الديانة المسيحية في مجتمعها الأصلي كفرنسا، وإنما نبحث فكرة التبرير لمحاصرة الشعائر الإسلامية بحجة الميزان العلماني الموحد، الذي لم يكن كذلك في الحالة المسيحية، وأن هناك قصة أخرى لحجم الواقعية التي اضطر لها الفكر الجمهوري، أمام مواقفه الشرسة ضد الروح الكنسية ومؤسساتها، انتهت إلى تهذيب هذه المشاريع لصالح الكنيسة، وهو ما لم يحصل مع المسلمين ولا الإسلام مطلقا.
الجانب الثاني هو أرشيف ضخم ومنظم وشهادات متواترة، أرفقها د. غريش شاهدا على أن المؤسسة الحكومية البلدية والإعلامية والأمنية، حوّلت مشاعر الاستهجان والكراهية، والخوف المبالغ فيه من شعوب المستعمرات، إلى منظومة تعامل عنيفة عنصرية صبت على تلك الأحياء، وكانت -في العقد الأخير- من أكثر مصادر توظيفات تطرف “داعش”، عبر إنسان هذه المستعمرات الفرنسي، الذي تطارده -أينما سكن- تلك السحنة وسمات أرض أولئك الجدود.
كان ملهماً للغاية استدلال د. غريش بممارسات الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي أسقط ركن عقيدة البروليتاريا للمحرومين، ومارس على تلك الأحياء -بعد فوزه بإدارة بعض البلديات- نفس النزعات البرجوازية العنصرية الممارسة على فرنسيي المستعمرات السابقة، أو من هم في التصنيف الثاني للجمهورية.
نحن إذن أمام معضلة فكرية ترتب عليها سلوك اجتماعي، وممارسات عنصرية عزلت المواطنة المتساوية وثقافة الاحتواء الاجتماعي عن مفهوم العدالة الاجتماعية، وخلقت أرضية تفريق لا تُوحِّد العلاقة والانتماء الوطني، من قبل الجمهورية ذاتها وليس من قبل سكان التصنيف الآخر.
إنها بالفعل أزمة السؤال الكبير أمام الغرب، ولا بد من أن تُضاف أيضاً عليها مساحة مسؤوليته عن حروب الشرق والتدخل فيه وفي أفريقيا، قبل تحرير حجم هذه المسؤولية في رواية الانحياز الشمالي عن جنوب الكوكب.
ويستدعي هنا د. غريش جملة حوارية من قصة “ملاك الهاوية” (خيال علمي للروائي الفرنسي بيير إردواج) تحت فكرة الخيال العلمي، تشير إلى تهديد كوكب الأرض بالتفجير من خلال الرد الهائل وغير المتوازن، ويمثل له بحروب خاضتها واشنطن ولم يترتب عليها قتل وتشريد الملايين من الناس فقط، بل تحريك كتلة من لهب الكراهية النووية المشاعر في الأرض.
وهنا ننتقل إلى الواقع والسؤال الكبير: من الذي سيفجر كوكب الأرض إذن؟ هل هو فعل جماعات التطرف والإرهاب التي أساءت إلى الشرق ودينها أم هي قرارات الحروب والقتل الجمعي، الذي تأسس عبر ذات الكراهية والانحياز ضد مستعمرات الجنوب السابقة؟
من المسؤول عن أكبر تأثير، ومن المسؤول عن أقوى مؤثر؟! ومن أين تنطلق المعالجة؟ وهل ما يجري اليوم من إسقاط آلاف الضحايا في عمليات القتل الجماعي لأبرياء مدنيين في سورياوالعراق -عبر قوات تحالف دولية غربية مدعومة من شبكة الاستبداد في الشرق- ورفض حصرهم أو عدهم كضحايا عنف، والاكتفاء بضحايا إرهاب “داعش”، هو وسيطة سلام عالمي؟
أين ستقف هذه المعارك؟ وهل فعلاً ستهزم الإرهاب بإرهاب آخر أم أن ما تفعله هو ضغط حراري آخر مجنون على العالم يخنق ضحايا الجنوب بحروب وأسوار تصنيف، ويُساهم في إفشال حريته السياسية لأجل الحصول على مصالح نفعية من مئات المليارات عبر صفقات المستبدين، ثم يهاجر الجنوبي المسكين من عسف المستبد بأرضه أو يتحول إلى متشدد؟ فمن دفع لهذا الواقع؟ ومن كان يملك كبرى الوسائل لاتقائه؟ وهل كان تعامله العدلي لو مارسه سيصبح به العالم أكثر سلما من اليوم؟
إنه النتيجة المستوحاة من هذا التسلسل المنطقي، إذن كيف يتحرر خطاب الفلسفة والثقافة العالمي في تحليل مسار المواجهة الأممي؟ وأين أثر الإسلام المزعوم -الذي يروجه الاعلام الغربي بكثافة- على البنية المباشرة للتطرف؟ وهل هذا الاحتلال الذي اختطفت به الجماعات الإرهابية مفهوم الإسلام، ثم روجت لمشروعها بأنه نصرة عالمية للشرق، هو أصل المشكلة أم أنه عَرَضٌ للأزمة القديمة؟ وهل اليمين الغربي جماعة محدودة أم تاريخ وسياسة أممية غربية قادتنا لهذه النتيجة الكارثية؟