Categories: مواد فكرية

نداءُ الروح في سجون الشمال الأمريكي

نداءُ الروح في سجون الشمال الأمريكي 

مهنا الحبيل

في عام 2021 كنتُ أُعدُ خواطر بعنوان رسائل الى نفسي، أدرجتُ فيها دردشات مع بناتنا وابنائنا الشباب، عن قضية الانتحارات التي برزت خلال الأعوام الأخيرة، والتي تطورت فيها أرقام الانتحار في الوطن العربي، وأضحت حوادثها تتالى في مهج صغيرة السن، أذكر جيداً أن أحد الأسباب كان أسئلة الاضطراب الفكري التي يعيشها الشباب العربي ولا يزال، كان هناك خليط من أسباب الضيق والكآبة، أخذ دورة جديدة بعد انتكاسات الربيع العربي.

      فمع فشل دول كثيرة في تحقيق الحد الأدنى من الاستقرار الاقتصادي والمعيشي، شهدت المنطقة حالة قمع شرسة، تزامنت مع اضطرابات اجتماعية ورثت عقوداً من أزمة غياب الحوار في الوطن العربي، واحتواء قلق الشباب، الذي كانت بعض الأسئلة الوجودية ترتد عليه، فيُقبل عليها في البداية ثم تنهش نفسيته وتبعثر تركيزه، حتى يدخل دورات كآبة صعبة، بعضها يتزامن مع اشتباك عنيف مع الأسرة أو تنمر على والديه.

      تلك الموجات كان الشباب العربي ولا يزال، يسمع خلالها صوتٌ آخر للحرية والكرامة الفردية، فينطلق الى عالم حالم، لم يتبين فيه معنى توحش المرجعية المادية الصلدة على الذات، وأثرها في ضعف ممانعته النفسية، ثم معنى الانعزال عن الوالدين معنويا أو جسمياً، وبالتالي تنتهي بعض تجارب الشباب اللذين غادروا بيوت أهلهم، برجاء السعادة المادية والفراغ الإيماني الى حالة كآبة شديدة، انتهت مع الأسف الشديد عند بعضهم بالانتحار.

      عاد لي هذا الخاطر وأنا أصطف لصلاة الجمعة الثالثة في مسجد تورونتو الكبير، في مدينة تورونتو، حيث يتقاطر الشباب عليه وبالكاد يسعهم المسجد، وهذا لا يعني عدم وجود أمم من المسلمين خارج المساجد، ولا يعني بالضرورة انضباط الجميع بأخلاق الإسلام في سلوكه، لكنها في النهاية حالة تعبد ديني، ترابط عندها هذه الشريحة من مسلمي المهجر.

      في نفس الوقت برزت بين يدَي معلومة، عن ارتفاع معدلات الانتحار في سنغافورة، وهي ليست الأكثر عالمياً، كما أن ليتوانيا وروسيا، لا يزالان يتصدران قائمة الانتحار، لكن في حالة سنغافورة كان الانتحار هو أول سبب للوفيات بين الشباب عام 2022، وكانت سنغافورة ذات النهضة المادية القوية، أكثر في معدلات الانتحار من اندونيسيا وماليزيا، حسب الإحصاءات، ويجب القول هنا أن نجاحات سنغافورة في تنظيم بنية مدنية عمرانية، جديرة بالاهتمام والاستفادة من رحلة لي كوان.

      لكن بعض المصادر تؤكد على صعود التعلق المادي الشرس، في حياة الأفراد هناك، وأن هذه المادية المصمتة والعقوبات العنيفة لمخالفات النظافة والنظام، تنزع أي مساحة تقدير روحية، وتُلقي بالناس في عجلة ماكينة صعبة، وعليه تظل دورة الإنسان مرتهنة في عجلة تصحر، يخلو منها خطاب الروح ومشاعر الضمير الصادق.

      وكنت قد تأكدت في مراجعات سابقة، أن بلدان المسلمين رغم الاستبداد والفساد المهول، لا تزال أهون من غيرها في احصائيات الانتحار، هذه الخواطر جالت بي وأنا أقف في انتظار دخول مسجد تورونتو الكبير مع الشباب، في عاصمة إقليم اونتاريو لصلاة الجمعة.

 وهنا حكاية ارتواء مختلفة..

      بعد الصلاة التقيت أحد الاخوة الذي أكد لي أن نسخ كتابي فكر السيرة (الإنجليزية) في طريقها الى أحد السجون الكندية، وكان القصد من اهدائها الى مكتبات السجن، أن نساهم في مساحة القراءة للسجناء المسلمين بسيرة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، وكان أحد الأصدقاء الشيوخ ذوي العلاقة والصلة بالأنشطة الدعوية، قال لي أن إدارة السجون في مقاطعة اونتاريو، ترحب بمخاطبة السجناء المسلمين، وتوجيههم تربوياً، وحتى من يُسلم من غير المسلمين، يجد مسؤولي السجن تغير إيجابي في سلوكه.

      فشجعني ذالك على دفع آخر النسخ الى إدارة السجن، عن طريق أحد الاخوة المتواصل مع السجن، جلستُ الى الشيخ وسألته ما القصة؟ ولماذا يرحب المسؤولون عن السجون في أمريكا الشمالية كلها، بإعادة بعث الروح الإسلامية في المساجين؟

فقال لي أن القصة في ولادة الذات من جديد، وتهذيب خلقها وتركيزها على ارتواء روحي لا مثيل له، وبالتالي يهدأ ذالك السجين الشرس ويتحول الى نزيل عنبر هادئ متعاون، يُريح السجن وإدارته وضباطه وأفراده من معاناة كبيرة، وهذا المستوى للخلق الروحي الجديد الذي يولد به الإنسان بعد عالم الجريمة والمخدرات، لا يتكرر مع ديانة أخرى رغم وجود مساحة للتوجيه الديني لأي دين، في السجون الأمريكية.

      لكن نداء الروح الذي يؤذّن في الذات، والذي حوّل مالكوم إكس الى مبعوث للإسلام الحقوقي والرسالي في أمريكا، هو ذاته من أذّن في ضمير السجناء فأشرقت روحهم لفجر جديد، نقلهم الى سلوك أخلاقي تهدأ به سجون أمريكا الشمالية، وتسكن بها زنازين عتاة المجرمين، حين يُشرق نداء الروح بين المحبوسين.

mohana63

Recent Posts

السياحة والنظافة والحضارة

السياحة والنظافة والحضارة مهنا الحبيل بدت لي أزمير محطة مهمة لبدأ الرحلة التركية البرية، كان…

5 أيام ago

السياحة الفكرية في تركيا

السياحة الفكرية في تركيا مهنا الحبيل تأخرت رحلتي السياحية بين المدن التركية عشرة أعوام، حيث…

5 أيام ago

الأخلاق والعقوبة بين برنارد ماندفيل والفاروق عمر

الأخلاق والعقوبة بين برنارد ماندفيل والفاروق عمر مهنا الحبيل يستشكل البعض في توسيع رؤية المقاصد…

5 أيام ago

سؤال الدولة الاسلامي والاستئناف الفكري

سؤال الدولة الإسلامي والاستئناف الفكري مهنا الحبيل وقفنا في إعادة تحرير النموذج الماليزي على سؤال…

5 أيام ago

أبو بكر الصدّيق في عالمنا اليوم

أبو بكر الصديق في عالمنا اليوم مهنا الحبيل إن العودة للحياة الإسلامية الأولى، وخاصة الصدر…

شهر واحد ago

المرجع الأخلاقي للعالم الجديد

المرجع الأخلاقي للعالم الجديد مهنا الحبيل إن المقياس الذي يعكس بدقة، حقيقة الكوارث التي يعيشها…

شهر واحد ago