هل آمن روسو بنموذج طالبان؟
مهنا الحبيل
ينجذب روسو دوماً إلى تلك الروح القوية البسيطة في التاريخ القديم، لا ينفك عنها، ولن نعيد نقدنا له من جديد، غير أن جاذبيته للطبيعة، وغضبه من التغول الملكي الكنسي في القرون الوسطى، وإعجابه بشراسة العقوبة على الملوك أو الحكام من طبقات المعارضة، تهيمن على مخيلته، وتتناقض في أحيانٍ كثيرة، مع إنجيله الدستوري، الذي قدمه كبديل لمجتمع مدني، تُحرر فيه قضايا الفرد والدولة تحت منظومة الفقه الدستوري.
ولذلك لا يتردد روسو عن أن يعتبر حكمة الفلاحين البسطاء، هي الأقرب لحفظ الإرادة العامة، حتى مع مستوياتهم المعرفية البسيطة، وأن قواعدهم السهلة في بيانات وبنود الإرادة العامة، أقرب للتطبيق في مقابل باريس أو لندن، ويستدل بقادة ثوريين انحازوا الى الشعب، وكانوا محل غضب من الجمهور الذي لو ادركهم لعلقهم على أجراس الكنائس، ويحيل روسو الأزمة هنا إلى من اسماهم (النظريين) وهو ما يؤكد بأن روسو، كان يضيق بقواعد التفكيك والدسترة الاجتماعية، التي يراها معقدة، لانها حسب رأيه اعتمدت على دول سيئة التكوين.
فالقلة الفلاحية الصارمة، أكثر تمثيلاً لحفظ الإرادة العامة، فهل يجوز أن نستدعي تجربة حركة طالبان الأفغانية هنا، في نموذج روسو؟
يبدو هذا الاستدعاء مثيراً للغضب أو الاستفزاز للبعض، خاصة أن روسو لديه حساسية ومعارضة كبيرة، لقهر الذات باسم الدين، رغم ايمانه الروحي، غير أن المقصد هو أن روسو يُصدّر نسخة المبادئ البسيطة، والقوة الفطرية التي تحميها، ولا يرى سقف الديمقراطية أرجح عنده، إلا من خلال ضمانات حررناها سابقا، وقد لا تتفق هذه المعادلة مع كامل فكر روسو، ولكنها قابلة للمداولة عنده، وهو غائب عنا اليوم.
قد يؤخذ من تجربة طالبان وتقاطعها مع مرجعية الإرادة العامة لروسو، أن بنيانها الفلاحي (البدوي) الفطري، اجتمع على تعاقد مبسط، أخذ من الفقه الحنفي المحافظ وبالذات نسخة الإقليم المنغلق، وعزل أي تأثير عليه، من خلال شخصية الملا عمر الكاريزمية، التي نجحت في تثبيت ميثاقها في أجيال من حركة طالبان، سخر شبابها دوماً من مصطلح الديمقراطية، ثم انتهت الى انتصار تاريخي حرر أرضها، وانتصر على الولايات المتحدة الأمريكية، وهي حتى اليوم ثابتة في إدارة الدولة، وتعقد علاقات خارجية لمصالحها، دون أن تفتح الباب لشروط التحديثات الغربية.
ورغم ان طالبان تفتقد لفكر الشريعة نفسه، وترفض الحرية السياسية التي طبقها الراشدون، ولديها إشكالية عميقة في عصبيتها القومية، ورغم أنها في بلاد مسلمة يدين غالبية شعبها، بمذهب ابي حنيفة النعمان، مع وجود اقلية شيعية من قومية الهزارة، ولكن لا تزال قضية الصراع مع هذه الأقليات قائمة.
إلا أن نجاح طالبان في خفض معدلات الجريمة، وفي نسب المخدرات، وفي وضع الاقتصاد المحلي، لافت للنظر رغم أنهُ يدار عبر تلك المجموعة، وإن كانت قد انفتحت على الفضاء الاقتصادي الدولي الآخر.
فهل ستعبر طالبان من خلال شرط روسو، وهي أنه كلما سعى البعض إلى نقض ميثاقها البسيط، نزل البدو المقاتلون من الجبال لحمايته، وأن مفهوم النزاهة الذي تحدث عنه روسو، في نظام التمثيل الروماني، لحكماء رومة القديمة، يشابه مراقبة الحكومة في أفغانستان طالبان، من خلال سلطة أمارة مركزية يقوم عليها خليفة الملا عمر؟
فهل ستصل طالبان الى نموذج دولة ذات تأثير حضاري إسلامي، توسع بعدها مدار الحكم، فيما ضيقته، بل حرمته من الشريعة، في المجالات المتعلقة بحقوق المرأة وغيرها؟
نموذج طالبان هنا، قد يتفق أيضاً مع قاعدة أخرى لروسو، فهو يقول نصاً، أن الدولة تهون، والرابطة الاجتماعية ترتخي، حين تؤثر المجتمعات الصغيرة، على المصلحة العامة، فتتوسع المعارضة، فتسقط الإرادة العامة، وهنا يُصرّح روسو بأن الإرادة العامة التي يقصدها لا تشمل الجميع، وهو ما قد يتناقض مع أصل فلسفته، ويتفق مع ما طرحناه سابقا، من استحالة قيام إرادة عامة جامعة، إنما القصد هنا في تشديد روسو على انتزاع مساحة الفلاحين البسطاء، الذين أتو بعقدهم الاجتماعي البسيط وفرضوه من فوق الجبال.
ولسنا نشك لحظة في أن نظام الإسلام الراشد، في شخصية أئمة العدل لا فقه المستبدين، لا يمكن أن يُطرح نظام طالبان أمامه، غير أن النظر في المراحل الانتقالية للدولة، وما هيمن على العالم من حصرية النظام الديمقراطي المزعوم من الغرب، والملفق والتطفيفي بين الغرب والشرق، لم يكن حلاً.
بل كان قنطرة لتمكن القوة الرأسمالية الدولية الظالمة، من الهيمنة على عالم الجنوب، لكن ربما يبرز أيضاً، فشل الحركات اليسارية حين حكمت، وخنقت الشعب في حريته فثار عليها، مع التسليم بوجود تآمر غربي عليها.
فهل سيتكرر المشهد في أفغانستان فيثور عليها الشعب، الذي سيجد داعماً مصلحيا انتهازيا غربياً، رمي أفغانستان في دورة حرب أهلية جديدة هو مشروع مفضل لديه، يعبر بعده درب الحرير الصيني، او درب المضيق الغربي، أم أن فقه الحركة سيتبع سنن الراشدين ويعبر الى زمن حضاري جديد، يصلح حاله مع شعبه اولاً.
ويستدرك روسو على أن من علامات زوال الدولة كثرة المراسيم، التي تفرض القوانين وتكون بعيدة عن الصلة الاجتماعية لقلوب الشعب، فهي تدعي الخير العام، فيما الأمر مقتصر على المصلحة الخاصة، وهذا يشمل كل بلد مسلم وغير مسلم، هنا الضابط المختلف يتمثل في فساد طبقة الحكم، أو نزاهتها رغم غلوها، وأثر ذالك في بقاء الدول.
ولذلك يتساءل روسو عن الإرادة العامة التي قام عليها العقد الاجتماعي الأصلي، هل فسدت بطبيعة مآل سياسة الحكام؟
ويقول كلا..
وهو يحرر هنا أمر بالغ الأهمية والدقة وهو ضمان أن يستمر حق التصويت، للعودة إلى الميثاق الاجتماعي، الذي لا يُفرز منه أي مواطن، وهذا يقع خارج حالة طالبان كلياً، لكن روسو يضعه، في سياق بقاء الباب الذي يحمي به الشعب إرادته العليا، وسؤاله الكبير هو كيف ينظم إطار الحماية لهذا الحق الشعبي العام؟