مهنا الحبيل
أثارت جولة الزعيم السوداني عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس القيادة السودانية حوارات واسعة وجدل متضارب، حول مؤشرات هذه الجولة الخارجية والتي اختُتمت بالدوحة، والتي أعلنت مبادرة جديدة لوقف الحرب، بعد تعثر مسارات أخرى دون اعلان فشلها، وقد تندمج هذه المسارات، في دعم عملية جهود السلام المرجوة لإخراج السودان من محنة اشتعلت بهجوم قوات الدعم السريع على مطار مروي، ثم الحصار العسكري والاجتياح الذي تعرضت له مدن السودان الرئيسية، في جغرافية الخرطوم الكبرى.
إن السؤال المركزي في أزمة السودان هو كيف ستقف الحرب، وليس في شرعية بقائها، هذا السؤال برز في الأيام الأولى لمحاصرة قوات الدعم السريع، لقطاعات الجيش السوداني، وتشديد خناقه عليها، وخاصة في البعث الأول للتمرد العسكري، وخطاب التصعيد من قائد الدعم السريع.
وهو ما كان يعني أحد تصورين، الأول هو أن هذا التمرد قد نجح وبالتالي تحول الى انقلاب، والثاني أن الجيش قد هُزم وسيعاد تشكيل الدولة بناء على هزيمة جيشها الوطني، والذي ستقوم به الجماعة المتمردة وحلفائها في الداخل، وأبرزهم سياسياً جناح (قحت) قوى الحرية والتغيير المؤيد للفريق حميدتي.
غير أن ما يهمنا اليوم هو فكرة بقاء الدولة مركزياً، ونحن نعني بالدولة المفهوم والمؤسسات وهياكلها الشرعية، المرتبطة بالشعب، وعبور مضيق الجولة الصعبة من الحرب والحصار معاً، فدون تثبيت هذه المعادلة، كان التهديد للدولة السودانية وليس لتيار سياسي، ولا لفصيل ايدلوجي، وأرى أنه من التسطيح والسخافة، إصرار فريق قحت أو غيره، على استدعاء الإسلاميين، كمسبب للصراع بين حميدتي والبرهان وقيادة الجيش.
كما أن التعامل مع الروح الإسلامية التي تبرز في الجنود، في فداء الوطن والتضحية لثباته أمام محاولة انقلاب مغطاة خارجياً، فُرضت على الجيش عبر حرب داخلية، حشرت المدنيين وأخضعتهم لعملية قمع وفرز تطهيري خطيرة، بأنها دلائل على وجود قوات إسلامية ايدلوجية، هو افتراء تافه.
فإنسان السودان المسلم، كيفما كان عرقه القبائلي أو الحضري، تقفز مشاعره وتولهه الإسلامي، أكان صوفياً أو سلفياً، أو أي روح دينية بسيطة، دمجته في الإسلام منذ ولادته على أرضه، وحتى إن كانت هذه الروح الإيمانية في سبيل الوطن، قد كثفها الإسلاميون زمن حكمهم، فهي لها أصل في روحه، لا علاقة له بكارثة السياسة والفساد، التي ارتكبتها منظومة الحكم السابق.
فالدمج السخيف هنا لصمود الجيش السوداني، بروحه الإسلامية للدفاع عن الأبرياء وجسم الدولة ومركزيتها، وهو ما ينتهي بالضرورة الى انقاذ السودان مدنياً، بدلاً من الزج به في روح الهيمنة الأفريقية، والتي أعلنت موقفها المنحاز في خطاب آبي احمد وتأييده للدعم السريع.
قبل أن يتبين علاقة موقفه، بجيوسياسية الأوضاع ما بعد سد النهضة، وحرصه المؤسف، على ضمان موقع قدم مختل في السودان، يؤمن له دعماً أمنياً وسياسياً لما بعد أزمة السد، وخاصة بأن السودان ظل يحافظ على موقعه الاستراتيجي، مع اديس ابابا، ورفض التصعيد المضر بدول حوض النيل.
إذن يبرز لنا ثلاث عناصر مهمة، تعنينا مباشرة في تحديد هل خرج السودان من عنق المؤامرة، أم لم يخرج؟
الأول: هو أن الحرب الداخلية على المدنيين، وعلى الجيش لا يمكن أن تتحول لانقلاب، فالانقلاب مضى وقته وفشل، حتى لو كان انقلابا نسبياً، كما أن زيارات البرهان لبعض جبهات القتال تمثل رسالة مهمة وحقيقية، في التموضع الجديد القوي للجيش السوداني.
الثاني: أن تدخل بعض الأطراف الإقليمية والعربية لضمان تغطية الدعم السريع، بعد فشل مشروعه الأول، رغم كل الدعم الذي صُبّ عليه، كان لتثبيته كطرف مقابل للدولة، بمعنى أن السودان الدولة وجيشه وشعبه، المؤيد بغالبية ساحقة للجيش في الطرف الآخر.
الثالث: لا يمكن لقوات تمرد فشلت في السيطرة على أي سلاح للجيش السوداني، وبقيت تحاربه من داخل الأحياء والاكتظاظ الشعبي، أن تبقى صامدة بل على العكس، فهي تتراجع أمامه وهذا يرصد على الأرض، فهنا تراجع الدعم السريع يدخل في العد التنازلي.
وبناء على هذه الشواهد الكبرى، فإن السودان اليوم خرج من تمكن الضغوط الدولية والإقليمية المنحازة من رقبته، وانطلق إلى فضاء قوة ارحب وأكثر تمكناً لسيادته القومية، وحين تقف الحرب فيفترض أن تقوم على هذا الأساس، الدولة مقابل اللا دولة، ومن المؤلم بل من المروع استحضار خسائر السودان في شبابه من الطرفين، وفي مدنييه، فضلا عن بنيته التحتية، فالخروج من الحرب مطلب أصلي، يُنظّم وقفُها لضمان عدم تكرار مراهقة ذوي المصالح المدعومة، على حساب بقاء الأمة السودانية ومدنيتها الرشيدة.