الشيعية الإيرانية في الوجدان التركي
مهنا الحبيل
كعادة المساء في مقهى الوادي، ورشفة الشاي التركي المُر، التي أصبحت مستساغة بل مفضلة، أخذتُ أقلب الأفكار، لم يكن هناك نية لوجبة تعمق ثقافي، أحبُ أن يكون مقهى الشاي ومساؤه، أكثر هدوءً، ولكن دون مقدمات دعاني زميلي المقهى الجدد، ولم أرهم من قبل.
أخي أنت عربي؟ قلتُ نعم، قالا تفضل معنا هنا (طاولتهما).. نهضتُ فوراً، خاصة أني لا أعرفهما وهما كذلك، والحديث العفوي بلا حسابات، أجمل ما تلتقي به نفوس البشر.
كل مفكر استراتيجي في العقل السياسي للعدالة، يؤمن بأن احتواء مئات الآلاف من القاعدة الاجتماعية السُنية لحركة الخدمة، سيكون أفضل من مطاردتهم. |
شابان تركيّان، أحدهما من مناضلي حزب العدالة الذي خاضوا معركة المقاومة الكبرى في 15 تموز، والثاني رفيق وصديق أخوي خاص له، وهو من أبناء حركة الخدمة سابقاً، وخرج منها، لكنه يحمل لها الود مع مخالفته للمشروع السياسي للكيان الموازي.. قلتُ ما شاء الله..
وابتسمت في داخلي، لكوني شعرتُ أن التواصل لا يزال قائم، خاصة في ظل المواجهة الشرسة، وهذا التواصل ليس المقصود به، قيادة جماعة فتح الله غولن، وجهازها الفكري والسياسي، وإنما القاعدة الاجتماعية المشتركة وخاصة بين سنة تركيا، وإن كنّا لا نتحدث طائفياً هنا، رغم أن الموضوع يتوسع في الطائفية والطائفيين، وإنما نتناول الزاوية الإنسانية والوطنية ومستقبل الشرق في ظل هذا الصراع. أكدت هذا المعنى وهل فهمي صحيح؟ قالوا نعم.
استطرد الصديقان وكان أحدهما يترجم بالعربية، كون رفيقه لا يحسنها ويذكر رأي الرفيق، وهو يقول لي أنا أخالفه لكن أترجم رأيه..(جميل).
نفسُ هذا الحديث دار مع أحد الأصدقاء من رجال الأعمال الأتراك المقرب من الرئيس، سألتُه عن مستقبل أعضاء الجماعة الذين لا علاقة لهم بأي عمل سياسي للكيان الموازي.
ذكر لي قلق الدولة بعد الانقلاب، من أن حجم الولاء الفكري لمرشدهم غولن، نخشى من تأثيره على التموضع السياسي بعد ذلك، وأننا في ظرف طوارئ اليوم.
سألته عن كلمة الرئيس أردوغان في أوج الصراع وقبل الانقلاب، والتي قال فيها أن هؤلاء أي مجموعات التربويين والتعليميين المنفصلين عن كيان الجماعة الموازي، والغير متورطين في أي عمل مباشر، هم إخواننا وسنرعاهم، وانما مواجهتنا مع الكيان الذي تدعمه واشنطن.
سألني هل قال ذلك؟ قلت نعم قالها، واخذتُها من مصدر تركي وكتبتُ مقالاً عنها، وكان تصريحه في خطبة حضرها عشرات الآلاف.
لم يكن الصديق فيما بدا لي يتوثق، بقدر ما أنه أحب أن يسمع المقولة، وكأنها لا تمر اليوم في أروقة السياسة، ولكن نبضها العقلي ضرورة، حتى ولو لم يصرح بها الرئيس مجدداً.
وخاصة مع تزايد الشعور بأن الحملة الأمنية لا يمكن أن تستمر بلا قيود، وأن كل مفكر استراتيجي في العقل السياسي للعدالة، يؤمن بأن احتواء مئات الآلاف من القاعدة الاجتماعية السُنية لحركة الخدمة، سيكون أفضل من مطاردتهم، فضلا عن الإشكال الدستوري والحق القانوني، قبل أو بعد انتهاء فترة الطوارئ. قال صحيح أذكرُ خطابه، ثم طوينا الصفحة لحديث آخر.
لكنها كانت مفتوحة مع صديقي المقهى، ففجأة وبلا مقدمات، بات الصديقان يتنافسان في إثبات حجتيهما، بالموقف من الشيعية الإيرانية وما فعلته من مجازر، تحوّل الحديث بقوة وبعصف متتالي بأن معيار المصداقية، هو الإرهاب الشيعي الإيراني الذي لا يوجد له مثيل، وفعل ما فعل بالسُنة المدنيين، ولا أحد يوقفه، مع التذكير بأن داعش جزء من مؤامرة عالمية على المسلمين السُنة.
بدأ الحوار يتجه للانفعال، لكنه منضبط. أحببت أن أهدّئ وأن اسأل وأن أفهم، وقبل ذلك كنت أرصد تغير الضمير السني في تركيا في قاعدته الاجتماعية، في الطرق الصوفية؛ الجذر الرئيس للتدين التركي، أو في قاعدة العدالة والخدمة، حتى التكنوقراط، الروح المبغضة لنموذج الشيعيّة الإيرانية المُسيسة يعم هذا الوجدان، والمقصود بها نموذج تصدير الثورة ومن اعتنقها، وحوّلها إلى أيدلوجية لمشاريع سياسية للقتل والإرهاب.
ولكن ماذا عن تجربة تركيا السياسية الحديثة؟ وماذا عن المواطنة والدستور؟ وماذا عن الحرب الأهلية بين الشيعة والسُنة العابرة للحدود. هل هذا يعني أنكم مؤمنون بها؟
قالوا لا لا.. ونحن مع الحكومة التركية في منع وصولها إلينا ونعرف خطورة ذلك.
إذن؟ هذه الإذن هي قلبُ المقال! وهنا أعودُ لفهمي للقضية، هناك 4 ملايين شيعي جعفري، وتشكّل الأقلية العلوية وهي الكتلة المصمتة لصالح المعارضة 15%، ولكن هناك موالون منهم عن قناعة لحزب العدالة، وهناك بينهم مساحة تحت التجاذب يخشون على حقوقهم الدستورية، أما الحالة الجعفرية الشيعية التركية، فلديها جسور مع الحزب، وهناك قناعات من قاعدة وشخصيات فيهم، بأن مصالح الطائفة في تركيا، ضمن هذا الاستقرار الوطني المدني والحق الدستوري للجميع، ولو اختلفوا مع سياسات حزب العدالة الخارجية، وهذا لا يُلغي مجموعات تخضع للموقف الإيراني.
هذه القاعدة في الوعي لا يبدو أنها غابت عن صديقيّ المقهى، لكن الإيمان بأن نموذج الشيعيّة الإيرانية، يستقطب الطائفة في كل مكان يتوسع. وبالتالي هناك أكثر من منظور لمثل استقرار هذه الفكرة.
الأول أن إيران صاحبة المشروع لا حظ لها في الغالبية الساحقة للوجدان التركي السُني، مهما تحفّظ ورفض سياسات دول الخليج في السابق واللاحق، ومهما استاء من تأثيرات الوجود السوري والعربي، على معاشه وأمنه واستقراره اليومي، بسبب إفرازات هذه الحروب.
فهو يدرك كليا أن إيران مجرمة حرب -وهي كذلك-، ويُحيل ذلك إلى شيعيّتها الطائفية، وهذا التنافس بل الصراع، بين جماعة غولن وحزب العدالة في الإعلام، بنسبة جرائم الحرب ومن يفعلها من الشيعة وعلاقة كل منهما بهذا الموقف، تشير إلى هذا التحول الكبير.
الكارثة الكُبرى، أن تَغيب أو تُغيّب كل أصوات الاعتدال الشيعي، بعد أن استهدفتها إيران وهمشّها النظام العربي. |
وهو من منظور آخر قد يُهدد إن لم يضبط، الحفاظ على البنية الدستورية، لكن ذلك غير مرجح، خاصة من خلال القناعة الشعبية بسياسات العدالة، وأن أقرب طريق للمؤامرة الغربية هو تفتيتهم مذهبيا بحروب، كما هو مشروع الغرب بإيقاد الفتنة بين الأناضوليين والأكراد الأتراك، بعد أن نجح في إسقاط مشروع المصالحة، واستخدم “البي واي دي” و”ال بي كي كي” لذلك، ثم استدراج حزب العدالة والجيش في هذا السياق.
بقي أمر، وهو أن طهران لا تُظهر قلقاً اليوم من هذا التحول، وإن كانت لا تزال تحمل لافتة الوحدة الإسلامية! وذلك لإيمانها، بأن قِدرُ الصفقة الكبرى مع الغرب، يتجه لصالحها، وما بعد الموصل وحلب، فرصة حصد النتائج.
أما الكارثة الكُبرى، أن تَغيب أو تُغيّب كل أصوات الاعتدال الشيعي، بعد أن استهدفتها إيران وهمشّها النظام العربي، وأجرمت فيها داعش وإخوتها. وبعد أن خان جملة من التنويريين الشيعة رسالتهم العقلية.
ليُقال للشرق لا خيار عن الحرب الكُبرى حتى فناء بعضكم بعضاً، وحينها سيغزل الغرب خرائطه من دماء لا رمال.