مهنا الحبيل

جاءت قصة تأثر روسو بهذا القديس، من خلال سرد رحلته ومفاهيمه، في عمر فتوته وعذاباته ومحنته، وهو كاهن سافوا* القديس الكاثوليكي جيم، وهي قصة تحتاج الى شرح عميق لأبعاد رسالته، ولكننا هنا نربطها برحلة روسو الفلسفية، وخطاب الدين الذي يهتف به، ثم ينفك عنه، بسبب أن الدين الذي عاشه روسو وسيطر عليه الكهنة والقسيسين، كان نموذجاً مزيّفاً، ليس من خلال شراكته مع سيف القيصر فقط، ولكن عبر روحه المزورة المنحرفة أخلاقيا.

       يُقعّد روسو هنا لمفاهيم التضامن للشراكة في حمل العجز البشري، وأنها في ذاتها أحد اسرار السعادة، وبالتالي يعود الى مبدأ الشفقة والرحمة في التربية من هذا الباب، لكن روسو يتعامل بحذر وتشاؤم في ذاته، ويُحاول أن يُداخل النفس البشرية، وكأنه يستدعي أسئلة التحرير النفسي للغزالي، ويحضُرُ الغزالي أيضاً عند استاذه كاهن سافوا القديس جيم، ليس من خلال التصريح باسم الغزالي، ولكن من خلال رحلته في البحث عن الله، في دلالة الذات والروح، وحضور النفس الصوفية القوية عند القديس جيم.

       والإمام أبو حامد الغزالي، ازدهر علمه وفلسفته وتصوفه، في القرن الثاني عشر، أما قديس روسو فأطلق رسالته المهمة، التي أودعها وجدان روسو في النصف الأول من القرن الثامن عشر، فهل هناك رابط بين فلسفة الروح والوجود بينهما؟

·      سافوا إقليم فرنسي على الحدود السويسرية

 فانتقل فكرها من الشرق للقرون الوسطى حتى عهد انطلاقة التنوير، وتأثر بها القس جيم، أم أن أسئلة الفلسفة الروحية عند أتباع النبوات، تقودهم لهذا الفارق الروحي، والدلالة العقلية الوجودية القوية، التي تبعثها قواعد العرفان الإيماني، ونُلاحظ هنا أيضاً أن في روح خطاب روسو واستاذه، نفسٌ من طريقة الشمس التبريزي مع جلال الدين الرومي.

       ورغم ذلك فإن القديس جيم كان في حديث هذه الرسالة، أكثر تركيزاً من فلسفة السفسطائي المغرق في قدم العالم، والتي نقلها فلاسفة الشرق وناقشوها، فكان تحرير القديس سهل وعميق، ترضى به النفس أكثر من صخب تلك القراطيس والعهود اليونانية، وما استنسخته بعض الفلسفة الإسلامية منها، في الشق الخاطئ والمبلبل للعقل، فيما قاعدة استدلال قديس سافوا، تقوم بعد دلالة الإيمان بالوجود اليقيني، على مرتبة قوية أخرى، هي استحالة ادراك العقل لكنه الإله الموجد.

       فوجوده الذي يُدرَك بالتأمل الطبيعي البسيط، أعمق من تدفق تلك الجدليات القديمة والحديثة، وهو هنا ينطق في مسارات تحريره، باسم النبوات كلها، وليس باسم السيد المسيح وحده، فهناك بعث توحيدي بارز لطريقة خطابه، تعزله عن التثليث، على الأقل في نص الرسالة التي أودعها روسو، وهل كانت الرسالة شفوية أم مكتوبة، لا نعرف.

لأن تدفق روسو فيها، يشير إلى لغة مختلفة بعض الشيء عن سياق كتابه، فضلاً عن أن مساحة التزام روسو بمبادئ القديس، لم تكن متابعة له في سلوكه ولا فلسفته، رغم اقراره بأهمية هذه المرحلة وبتأثير رعاية القس جيم له، وقد اهتم بتأكيد هذا الأمر في خطابه للقراء.

       إنني أعتقد أن نص رسالة كاهن سافوا، بالغة الأهمية اليوم، وتحتاج إلى إفراد دراسة مستقلة، في فلسفتها وفي تصوّفها، ولكننا نثبتها هنا كدعامة رئيسية في رحلة الدين في حياة روسو، وهي ذات تأثير في أحداث حياته، وليس في مبادئه فقط، فكاهن سافوا، أدرك روسو وأنقذه، بعد أن بطش به كهنة الكنيسة الكاثوليكية، التي لجأ لها ليأوي الى أي شجرة ترعاه في ظل تشرده.

 فأعلن لها كما يقص بنفسه في كتاب إميل، أنه يريد أن يعتنق الكاثوليكية، ويخرج من مذهب ابائه البروتستانت، ويُقدم روسو هنا صورة شديدة الكآبة والجهل والظلم، في طريقة التعاطي مع من يُطلق عليهم مهتدين من (الكفر) البروتستانتي، لتضمن الكنيسة الكاثوليكية تصحيح عقيدة أولئك المهتدين، فتودعهم في دير خاص لمتابعتهم، وحين بدأ روسو تمرداً على عسفهم لعقله، اضطهدوه.

       وهنا بدأت قصته مع القديس جيم ورعايته له، والذي تعامل معه بمنهج إنساني رحيم ورأفة، كان محركها الضمير الديني، الذي تمرد على استبداد الكهنوت، وأرخى روحه للتأمل المعرفي، والطبيعة الفطرية، بما في ذلك علاقة المرأة والرجل، وحقُ رجال الدين في الحياة الجنسية المشروعة، وهي التي كانت بوابة لخطيئته التي اعترف بها كاهن سافوا، والتي عوقب عليها كنسياً حين اقام علاقة جنسية مع امرأة، وهو تحت الشرط اللاهوتي للكنيسة الكاثوليكية، بحسب سياق القصة.

       وكان تقرير رحلة ايمانه ومفهوم العودة الصوفية الى الله، يتخذ طريق المعرفة والمراقبة معاً، والتواضع أمام الخلق، وهكذا رعت روحه روسو فأثر فيه تأثيراً بالغاً، حين حرره وقال عد الى دينك (البروتستانت) فالأديان واحدة، من ناحية الإيمان بالله الموجود المريد، ودلائل صنعته فينا يقين، ولم يُفصّل الكاهن هنا إشكالية المسيحية العميقة، التي وقع روسو ضحية لأحدها، في صراع التكفير الذي اُجج بناءً عليها حروباً عظمى في تاريخ أوروبا، بين الكاثوليك والبروتستانت.

       لكن تأكيده على روسو بأن يتخذ قراره وأن يتأمل، في رحلة وجوده وأين يقع قلبه بين ربه وسلوكه، أثر في روسو، وإن كانت تلك المفاهيم لم تنعكس بالضرورة على فلسفة روسو من حيث أصول المنهج، والتقعيد الكلي لها، ولذلك قلنا أن قصة كاهن سافوا التي سماها روسو اعترافات تحتاج إلى دراسة منفصلة، وهي دراسة تتأمل في هذا البعث المشترك، للتصوف المعرفي والفلسفي الوجودي المشترك، بين علماء مسلمين وكهنة مسيحيين، في عقيدة ايمان واحدة، هي في الأصل ليست مستغربة فرسالة النبوات واحدة، ودلائل فلسفة الوجود شاهدة.

أما الرابط هنا فهو معنى الدين، في ضمير روسو الأخلاقي، وشريعته التربوية وعقده الاجتماعي، حيث يحضر ثم يغيب في ثورة روسو على الدين، وعلى النظام الاجتماعي الملتحف به.