مهنا الحبيل
خطت قدما عبد العزيز الشاب التشادي أرض كندا بعد رحلة صعبة، للبحث عن ضوء الطريق الآخر، فبدأ رحلة اللجوء السياسي الذي دفعه له ضريبة القلم، وحرصه رغم باكورة شبابه على نقل إنجامينا، إلى مرحلة التعافي الأولي بعد عذابات طويلة، ولا تزال قصة الحقوقية التي نحتت حكايتها في عذابات لا يصدقها العقل من بشاعة وحشيتها، تسكن ذاكرتي، فظائع هيمنت على الإنسان والأرض في عهد الرئيس ديبي الأب، لم تكن تلك الحكاية إلا رمزية واحدة لتغريبة شعب تشاد في وطنهم الذبيح خلال تلك العقود.
وربما وصفي بأنها لا يكاد يصدقها العقل، قد تجاوزه الزمن، فمنظومة طباع النظام الإرهابي التي عاشتها سوريا وغيرها، وما عاشه الأشقاء الأفارقة من ترسانات الحكم المتعاقبة، قد اخترقت كل الأرقام، ولو كانت موسوعة غينيس تسجل الأكثر إرهاباً وتوحشاً في السلوك البشري، لما سكنت يوماً في تجديدها بأرقام أكثر بشاعة، يضج به هذا العالم الحديث.
والأقسى هو أن آلة الغرب المركزية العنيفة، يصطف لها متطوعون من أنظمة الحكم في أفريقيا وغيرها، فتجد باريس أو وموسكو أو بقية الغرب، من يكفيها لسحق أرضيات أوطان، تهيئة لحكم جديد، حتى أن خطط تبديل الحكومات في مأساة أفريقيا، كانت تقوم به شركات تنوب عن كولونيالية فرنسا أو الانجلوساكسون.
ولنا في قصة هذه الشركات حكاية عتيقة في المشرق العربي، فبساط التاج البريطاني كان يغزو آسيا باسم شركة الهند الشرقية، تاريخ من المعاناة والآلام والصراع القبلي المجنون، كان يُقدم كمبرر لتلاعب الغرب بالقارة السمراء، بدعوى أن هذا العقل لا يمكن أن يدرك مصالح شعبه وقوميته، في تعبير يثير السخرية.
يحاول أن يُنسي الإنسانية كبريات المذابح للإنسان الافريقي، التي شرعتها غزواتهم الهمجية، وقلّب ما تشاء من صفحاتهم السوداء وانظر الى مآل عشرات الملايين من الناس، كيف كانت وقوداً رخيصاً لا قيمة له، لأجل أن تُصّب حياة الرفاهية من الكاكاو والمطاط والمعادن وغيرهم، لخدمة إنسان السيادة الكولونيالية، فأصبح اليوم وكلاء ذلك التوحش من أبناء افريقيا.
ولكن رواندا خرجت من ذلك النفق المظلم، رغم أنهُ حلم صعب، خلق منه بول كاغاما مشروعاً تنفيذياً على الأرض، هذه الحكاية عادت لي في قصة عبد العزيز الشاب الصغير الذي بدأ يخط قلمه، لآمال نهضوية للحرية والقيم الإسلامية، القيم التي اُضيع جزء من روافدها الكبرى في مقاصد الشريعة، بسبب خلل في الوعي الديني أو بسبب تدخل المستبد، وكانت إنجامينا تنتظر فرصة خلاص مرحلية بتولي ديبي الابن، لكن هذا الأمل تأخر أو اغتيل، بسبب الواقع الذي لا يزال يتكرس في تشاد.
رغم أنها كانت فرصة تاريخية لنجل الرئيس السابق، أن يفتح صفحة جديدة مع الشعب، تعبُر فيها إنجامينا إلى عهد سلام ومقدمة نهضة، تخلقها سواعد شعبه باستقلال عن باريس دون ضرورة لمواجهتها، ويَفتح له سيرة رئاسة انتقالية، يحظى فيها بثقة الشعب، أو يسجله التاريخ كعهد اشراقة مميز لما بعد جحيم أبيه ومن سبقه.
هذه المراجعة التي اخذتني اليها دون تخطيط، كانت مرتبطة بحكاية شباب تشاد وبعث النهضة الإسلامي الجديد فيها، فالبعد السياسي يظل يرزح على كل شأن من شؤون الشعب، وخاصة طليعته الثقافية، رغم أنني أرى أن كفاح التأسيس الفكري يحتاج أن يبتعد عن مواجهات السياسة، ليضمن أرضية الوعي الصلب لفقه الدولة والفكر المدني والدستوري في الإسلام، واحتضان المجتمعات بإرثها القبلي والديني المتعدد، قبل أي مشاركة واسعةً في العمل السياسي.
وذلك لبعدين رئيسيين الأول أن مدارات التأهيل الثقافي لفكر النهضة، لها منهج صناعة اجتماعي وأخلاقي لفكر الفرد والجماعة الوطنية، هو في ذاته حين يشتد عوده يقلص مساحات الفشل، في المجتمعات العربية والأفريقية والآسيوية الأخرى، ويخلق منظومة سلوكية رشيدة في التعامل مع الذات الفردية والقبلية والدينية، المتداخلة بشدة في ديمغرافية عالم الجنوب، ويُعزز مفهوم العدالة وقمع شهوات الذات أو الجماعة الجزئية، في طمعها على استحواذ حظوظ الجماعة الوطنية، أي مجمل الشعب.
والثاني أن هذا التأهيل في شباب الحلم النهضوي التشادي، يجنبهم وشعبهم ردات الفعل العنيفة كالتي آلت إليها بعض شعوب الربيع العربي، أو بعض الحروب الأهلية الدموية المروعة، في افريقيا، وكما أقول دوماً لن ينجح مشروعاً سياسياً دون أهلية فكرية، تعبر لشروط النهضة والفقه الاجتماعي الدقيق، لطبائع الشعوب وتجاربها، والمساحة الممكنة لغرس أفكار ومنهج القيم الرشيدة بينها، وخاصة علاقتنا المفتوحة في اصلها، بين الشعوب المسلمة في افريقيا والشعوب غير المسلمة. وللحديث بقية