مهنا الحبيل
إن كل مهمتي أن اضع قدمه على طريق المعرفة، لا أن اعلمه بنفسي (..)، وأن يستخدم عقله لا عقل سواه من الناس، فمعظم أخطائنا تأتي من الاعتماد على سماع الناس أو تلقين المعلمين.
جان جاك روسو
تبدو هذه القاعدة ملهمة رشيدة في فلسفة روسو، من حيث المعنى ومن حيث تقييم أرضية مصالحها في حياة الفرد وفي دقة المعلومة، والتي يضعها روسو في سياق الوصول للأهلية التامة للفتى عند بلوغ الخامسة عشر، للحكم على الأشياء والأحداث، واتخاذ موقفه بناءً على ما يعتقده روسو بيئة صحية مستكملة، من حيث المعلومة وسلوك التفكير.
يؤصل روسو لمذهبه هنا في أن رحلته الافتراضية مع إميل، وصلت به إلى الكائن العامل المفكر، كيف ذلك؟
لأن روسو خلق في فتاه الجمع بين الإحساس والمعاني والأفكار، وليس التحرك بحسب ما يشعر به، وعليه تتكون المعاني في ذهنه وهي خاصية الذهن البشري، وأن تقديره للعلاقات ستكون واقعية فلا يُضخِم المشهد بعلاقات لا وجود لها، أو تصورات خلقها أرشيف العلوم والمعرفة، التي يرفض روسو أن تتدفق على الفتى، ويعوّضه لرفد حواسه وتمييزه العقلي، بأمثلة واقعية بسيطة، وهذه الطريقة هي من تقوده الى تحصيل المعارف العلمية بنفسه (إميل).
هنا يبدوا أن روسو يفتح البابَ مجدداً للتحصيل المعرفي، بعد أن ضمن بحسب رؤيته خلق واقعية استشعار وتفعيل للحواس، منضبطة في ذهن الفتى، أي أن الفتى دون الخامسة عشر، لا يجوز أن تُفتح أمامه آفاق المعرفة، فهو اليوم إن لم يكن متعلماً فهو قابلٌ للتعلم، ويحتج هنا بأن هذه القاعدة، هي ضمن سياقات أفكار ميشيل دو منتين، الموصوف بأنه مؤسس المقالة الحديثة، وأحد رواد عصر النهضة الفرنسي.
ومونتين ذاته الذي ادركت فرنسا فلسلفته في النصف الأخير من القرن السادس عشر، بمعنى قبل مائتي عام، من حياة روسو الفلسفية، كانت له تأملات وعزلة، انتعشت في بلاط الملك شارل التاسع عشر، وغير واضح، بل لا يوجد دليل على موافقة مونتين لرؤية روسو، اغلاق أبواب المعرفة قبل الخامسة عشر، ولم يزعم روسو ذلك ولكننا نحاول أن نفهم، مدار اندفاع روسو وتمسكه الصلب بهذه الخارطة في نِشأة الأجيال، وتشديده على محدودية تدفق العلوم عليهم، دون تحرير مساحة المختلف من القدرات، ولا المناسب لمراحلهم العمرية.
إذ أننا نشهد في حديث روسو مسألة مهمة موضوعية، من حيث التدرج ومناسبة مواضيع العلوم، تدعم صحة الموقف في التربية المعرفية الثقافية للأجيال، وبالذات في اقتحام عالم الطفولة، بقراءات ضارة مضطربة، قد تؤثر على سلامتهم النفسية، غير أن ذلك لا يستدعي بالضرورة معايير روسو المشددة، والتي يُمثل غضبه من مرجعيات الأكاديمية الغربية في أوروبا حينها، أحد أسباب رفضه الشديد.
وكأن روسو يدين نفسه بأن منظومة العلوم التي حددها لإميل، لا تدخله التاريخ، ولا تصنع لديه أي بعد قيمي ولا أي صلة أخلاقية مفترضة بين أي انسان وإنسان آخر، وكأنه يَدمج علاقات الإنسان بالإنسان بعلاقات الأجسام بالأجسام، وهناك إشارة واضحة لذلك، وهو يُصرّح بأن إميل لا يكترث بالعرف، ولكن للمنفعة، ولا يقيم وزناً لرأي الناس ولكن للأشياء.
أمرٌ غريب ..!
فروسو الذي يعاني من بأس علاقات الناس المادية، وانحباس مشاعرهم الأخلاقية، يصنع كهفاً مقطوعاً لعالم الجيل الجديد، تؤسس رحلة العمر فيه حتى الخامسة عشر، عبر تقدير المنفعة المادية، والمشاعر التحسسية الأولية، ثم يُقدِّر هذا الجيل قرار الصواب من عدمه، من خلال ميزان تقييمه للمنفعة المرتدة عليه، وحتى لو فرضنا أن روسو بدأ بعد ذلك، في تكثيف معاني النضال والكفاح لجيل الثورة.
فأين هو الرابط الذي يُحوّل هذه القاعدة الشبابية للثورة الحقوقية، ولماذا لا يكون هذا التأسيس وإن كانت له جوانب إيجابية وفطرية جيدة، مقدمة لتحويل هذا الجيل لصالح القصر، فهل كان بعث الثورة الفرنسية مرتبط بنشوء جيل روسو التربوي، هذا لا يوجد دليل عليه، ورغم أن روسو يطرح في هذه التربية معنى فضيلة اجتماعية، وهي أن إميل لا يَعتقد أن له أي سموٍ اجتماعي على بقية الناس، في إشارة لبرجوازية طبقة النبلاء المقربة من القصر.
لكن من يستثمره من قوى القصر كان يمكن له أن يوظف نظرية المصلحة، وأما زعم روسو أن هذا الفتي سينشأ قويا صحيحاً، وأنه لا يفقه فكرة الموت ولا يخاف منها، فلا يصمد أمام نزعة الفطرة التي تولد مع النفس البشرية، وتسقط فيها كل حسابات روسو!