مهنا الحبيل
24/9/2023
إنها لمهمة شاقة أن يقاوم الإنسان المزاعم التي يوردها المؤلفون، ومزاعمهم الشخصية، كي يصل إلى الحقيقة، وقد قضيت عمري أطالع كتب الأسفار، ولم اجد بينهما كتابين يعطيان فكرة واحدة عن شعب بعينه، أجدني نادماً على ما أضعته من وقتي، فهذه الموضوعات لا يجمل تحصيلها بالقراءة بل بالمشاهدة.
جان جاك روسو
تُوافق روسو تماماً حين تقرأ لبعض كتب الرحالة، ممن نشروا قصص أسفارهم للبلدان خلال المائة عام الماضية، التي ممكن أن ندرك فيها حقائق ذات دلالة واضحة، توافق أو تخالف انطباعات أولئك الرحالة، ويتعزز لديك التقييم في دلالة عالم اليوتيوبرز (الرحالة المصورون) اليوم، فتجده في بلد على بعد بضع كيلومترات منه مواقع وسجل من المذابح أو الأزمات، ولكنه يصوّر لك عذوبة الماء وحسن المنظر وجمال الطقس، فأين الضفة الأخرى؟
فهذه شهادة لصالح جان جاك روسو، لكنها ضده ايضاً، كيف؟
لقد قرر روسو فرز الأمم، إلى منظومات شعوب تحتاج الدراسة، ومنظومة لا تحتاج، وشعوب متشابهة وشعوب لا بد من السفر اليها، وشعوب سلالاتهم متقاربة وشعوب ليست كذلك، ومن المنطقي الأساسي عدم اعتبار مقياس روسو هنا دقيقاً ولا كافياً لتحديده كمعيار أنثروبولوجي، ذو دلالة فلسفية أو استقراء فكري للتاريخ الاجتماعي السياسي لهذه الأمة أو تلك، ومن ذلك انتخابات روسو للشعراء والمؤرخين، واقصاء آخرين بل هو يكاد يحدد هيرودوت* كمرجع وحيد للتاريخ القديم.
وروسو يعتمد بصورة مغرقة في استدلالاته وفي تأصيلاته التاريخية، على تاريخ الإمبراطورية الرومانية وتاريخ إسبارطة، فأول مبدأ نحتاج أن نستدعيه، هو قاعدة روسو ذاته في التبيّن والتوثيق، أين مصداقية هذا النقل، وكيف ننظر الى الزاوية التي نُحت منها هذا التاريخ، وخاصة بأننا نواجه تحييداً ضخماً لكتابة تاريخ العالم والمنظور الذي انطلق منه، بل مجموعة المصادر المروجة عالمياً، لصالح الغرب الحديث المرتبط بالغرب القديم.
ونضيف في ذلك أن روسو تسيطر عليه فكرة التأسيس لمنظومة النظام الجمهوري، في تاريخ الحضارة الرومانية، ومسارات القوة المفروضة على الأرض، دون أي مراجعة للحتمية الأخلاقية، رغم أنه أطلق مشروعه باسم اخلاق الطبيعة، هذه الأخلاق الذي صدّرها روسو كبديل للإيمان بالأخلاق الروحية، المرتبطة بالفطرة، والمرتبطة بالله الخالق وقوانين عدالته، أثرت على روسو حتى في مفهوم إبادة الإنسان الضعيف المعاق، أو المريض، والذي تحدثنا عن أزمته الأخلاقية في موضعه، حين كان يرفض أن يُنفَق على المعاق أو أن يُلزم الأصحاء بدعم ذلك المريض أو المعاق، لأن ذلك مرهق للدولة والنظام الاجتماعي.
وهنا ورطة كبيرة لروسو، رغم تميزه عن فلاسفة الحداثة وارتباطه المستتر في ضميره، بمفهوم الخالق، لكنه تأثر بالبعد الوضعي الشرس الذي دفعه له التفكير في الدين الطبيعي، وسقط عدة مرات في تشريعاته التربوية والسياسية، وهذه المفاهيم في إبادة الضعفاء عند الرومان الأقدمين، لم تسعفه للتوقف عندها في ادعاء الوهية (أغسطس الروماني القائد ابن الإله) وفي اعلان القوة العظمى التي سطّرها مبدأ الصراع، (أيها الروماني تذكر بقوتك أنت تحكم شعوب الأرض).
وهي نظريات كانت خليطاً من الوثنية السياسية الدينية، وأن نظام القناصل أو ممثلي الجمهورية، الذين حوصر قرارهم مراراً، كان يخضع لروح التغلب المقدس لمنظومة الظلم الروماني، الذي أقر فيه مجلس الشيوخ نفسه ألوهية قيصر عبر تصويته قبل الميلاد، قس على ذلك حشد من التخلف والسلوكيات المشينة في روما وأسبارطة، أبعد ما تكون عن النبل والعفة التي أراد لها روسو أن تتمكن في حياة إميل.
إن هذا المسرح المهم في حياة روسو يأخذنا إلى مقاييسه المطلقة، والتي لم يكن منصفاً فيها من حيث المبررات الأخلاقية للعدالة الاجتماعية، ثم قصوره الشديد عن مراجعة تاريخ بقية العالم، ولقد اعتمد روسو فكرته في العقد الاجتماعي، لتحرير البديل التعاقدي بين الدولة والشعب، غير أن مرجعية هذا البديل كانت تبحث عن غيرية كبرى، تستقل عن أقانيم التحكم السياسي والديني في زمنه.
والذي كان يصطدم بكتلة القمع البعيدة عن التسامح، في مسيحية القرون الوسطى، واستثمارها عبر القوة السياسية القهرية، في إخضاع الشعوب، ومع أن مآل الإمبراطورية الرومانية أسوء، إلا أن روسو كان يدلل بها على تنظيم فكرة القوة والدولة وفصل السلطات الدستورية، في وقت متقدم من العالم القديم، ولكنها منظومات تشريعية بعيدة كل البعد، عن مفاهيم التسامح والرعاية لمواطنة الفرد، وكفالته الاجتماعية من خلال المسؤولية الأخلاقية، لا النفعية المادية، وهي التي لا يمكن أن تتحقق دون مرجعية السمو التشريعي للخالق الرحيم.
· مؤرخ أغريقي يوناني 425 قبل الميلاد.