مهنا الحبيل

مر زمن كان فيه أبناء شعبي يُغطُونَ الأرض مثلما يُغطي البحر الذي نفشته الريح قاع البحر المُعبّد بالمّحّار. لكن ذلك الزمن مضى وانقضى مثلما عظمة تلك القبائل التي لم تعد الآن سوى ذكرى مخنوقة بالنشيج.

سياتل دواميش

كانت هذه الكلمات من خطبة الاستسلام المُر لزعيم الهنود الحمر (السكان الأصليون) في أمريكيا الشمالية، وهذا المصطلح خلافاً لما يعتقده البعض، هو الوصف الحقوقي التاريخي لهم، كونهم أمة أصلية هاجرت من العالم الجنوبي، والهند التاريخية أحد مراكزه القديمة إلى العالم الجديد، قبل المستوطن الغربي بقرون، فالتسمية أعمق من الخطأ الذي اعتقده كولومبوس.

 وخطبة دواميش بليغة ومؤثرة، جمعت بين الشجن العاطفي المحتقن في صدور ذوي الضحايا، ورفات الملايين من قبائلهم الذين سحقتهم آلة المهاجر الغربي المستوطِن، وبقيَت آثار فكر التبرير باسم (تخلفهم) حتى زمننا المعاصر، والتي تسعى حكومات أمريكا الشمالية وقاعدتها الأكاديمية والسياسية والكنسية، تجاوزها في منظومة اعتذارات سطحية وصور فلكلور مَتْحَفيَة، تُغطّي خلفها حقائق كبرى للتاريخ الإنساني والقيمي، لقبائل أهل البلاد الأصليين.

       بل إن الفكرة الحقوقية للسكان الأصليين، تُستخدم اليوم كتبرير معاكس، يتفق مع فلسفة الحداثة التي أبادتهم، بحكم أنهم أمم (متخلفة)، وتُستثمر في الترويج لسياسة النوع الجندري الصاعدة، فتطرح قصيتهم كنوع من الجندر يخشى عليه من الانقراض، وبالتالي حتى لا تتكرر المأساة حسب مزاعم الأيدلوجية الجندرية في فئات جديدة، يجب أن تُعزز فكرة التغيير الجندري، وتحويل الذكر إلى انثى، والأنثى إلى ذكر، وتوسيع النوع بناء على التدخل الجراحي البشري، إلى عدة أنواع.

       ولذلك فإن قضية التسمية اليوم، في جدل القوة السياسية الضخمة لهذه التيارات، يدور حول خلق الصنف المخالف للفطرة، دون أي حالة تشكك أو شعور مضطرب في نزعة الجنس عند الطفل، بقدر ما هو فرض شعور قلق عليه، ووضعه في بؤرة اضطراب لتحديد جنسه خلافاً لما خُلق عليه، فتتدخل الدولة لفرض مصطلح المناداة، فلا يَعرف المُخاطِب ماذا يقول، أو كيف ينادي صاحبه أو عميله أو زميله أو قريبه، وهي قضية جدل تشريعي صاخب اليوم في أمريكا الشمالية.

       فما علاقة ذلك بالسكان الأصليين؟

هل كانوا أمماً مثلية، كيف انجبوا ملايين الأطفال والذراري، التي أبادتهم الحداثة أو من بقي منهم حتى اليوم، وذلك الزمن لا توجد ارحام تُستأجر ولا أطفال انابيب ولا نطف تُخّزن، فلماذا تتكئ أيدلوجية الجندر على هذه الحقوق، التي سُحقت بذات مفهومهم الأصلي (التطور)، كل ذلك لا وجود له في الحقيقة، فقبائل السكان الأصليين القادمين، من الشرق التقليدي قبل آلاف السنين، كغيرهم من أمم الخلق تجمعهم المعادلة القرآنية الكونية:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)

ودوماً أعجبُ من عظم هذه الآية، كيف نزلت في آخر مراحل العالم القديم، وقبل أن يولد عالم جديد، كان ينتظر بالفعل منظومة ضخمة من البعث النبوي الذي يروي حكاية العالم ووجوده، تزامن مع ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، لتحرير العالم من مبادئ ظلم كبرى وصراعات، فتكت به وعزّزت المرجعية الوثنية، حتى في العالم المسيحي، والعصر الفارسي، حتى وقع هذه الآية اليوم، رغم الانحراف التاريخي، الذي سجله القرآن الكريم، ووثقته المصادر التاريخية في العالم القديم، لنزعة المثلية، وحتى في وطننا العربي أزمنة الانحطاط.

فكانت سلوكاً يظهر هنا أو هناك، أو متعة نزوات منحرفة، لها ارثها وحمولتها الاجتماعية وأزمتها في ذات الفرد والمجتمع، صعدت في حضارة فارس والامبراطورية الرومانية، ولكنها لم تكن تُعلن أبداً بأن الوجود الإنساني، خارج توالد واندماج الذكر والأنثى، فالحقيقة العلمية الفطرية اليقينية، ظلت معتقداُ سائداً مدللاً في تاريخ الإنسان، ومعلومة طبية موثقة، لم تتعرض للتجريف والمواجهة، إلا في الزمن الأخير، عند صعود المذهب الأخير للجنسانية.

والذي تطور أمره بعد احتضان القوة الرأسمالية له، وأصبح جزءً من قوانين الإبتزاز الدولي، أنظر هنا كيف حسم القرآن هذه القاعدة بهذا الإيجاز البلاغي، والعلمي اليقيني منذ بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وانظر هنا إلى تكامل الآية بين تعريف الجنسانية القطعي، وبين دعوة الناس كل الناس للتعارف والتشارك، وبناء هذا العالم بأخلاقيات السلام وتبادل الحضارات، وليس عبر عقيدة الإفناء المزدوجة.

وكانت اهم معالم حوار اوتاوا الأخير، دعوة تصحيح الصورة الذهنية للأرشيف الإنساني، عن الحدث التاريخي في الغزو الغربي الأوربي الديني والسياسي، والذي أصّل مفهوم التخلف الذي يناقضه خطاب دواميش والفلسفة المصاحبة له، ليس فقط في فكرة توحش الهنود الحمر المزعومة، التي كانت ضمن المقاومة الوطنية للسكان الأصليين، فصوّرَتَها السينما والقاعدة الثقافية الغربية، ونشرتها في العالم كدلالة لتخلفهم.

ولكن لكون أن هناك أرشيف مغيّب عنا، كُشف عن مصدر مهم فيه من خلال حوارات وفود الكنيسة الغربية مع السكان الأصليين، قبل الغزو الاستعماري، ودلائل تفوق العقل الأخلاقي للهندي الأحمر على الإنسان الغربي، والذي كان فرصة للحديث عنه في لقاء في اوتاوا مع الأخ العزيز، د. عمر عضيبات، الباحث المتخصص في الفلسفة الأخلاقية، والذي عرض لمنظومة تفكيك قداسة الحداثة، بنقد علمي وفكري واجتماعي، والتي ساهمت في خلق تيار فلسفة العرفان الإسلامي، في أمريكا الشمالية، كدلالة لحجم المراجعات الغربية في نقد العقل التجريبي.

 وأن هذا المسار المصاحب، هو في اكتشاف القوة الفكرية قبل الغزو الغربي، وقيم انسان أمريكا الشمالية الأصيلة، والتي طُرحت في مناظرات بينهم، وبين طلائع الاستكشاف الغربية قبل العزو، فتعرضت الفكرة الغربية في القرون الوسطى الى هزيمة معرفية كبرى، سبّبت لها صدمة لكنها لم تمنعها من غزو أرض المتفوق الأخلاقي ولا تشويه تاريخه.