مهنا الحبيل

14/11/2023

من البديهي اليوم، القول أن فلسفة طه عبد الرحمن تستحق الصدارة في منظومة الفلسفة الأخلاقية، وأن سؤال الأخلاق الذي تصدّر بعثه الفكري المعاصر، بات بحد ذاته ظاهرة عالمية، تقرع طغيان المادوية الشرس على حياة التصور الإنساني وأصل الوجود، ثم على كارثة تنحية كونية الروح في الوجود وفي الذات البشرية وفي السلوك، وحين نصف عبد الرحمن بأستاذنا عبر السطور، فهو تجسيدٌ حقيقي لمعني تصدره هذا الرواق الفلسفي المهم للغاية، في زمن العالم الأخير.

       ولست في وارد شرح فلسفته، وإنما في عرض تفصيل مهم أحسب انه من أولويات الجيل الجديد، في دراسة فلسفة عبد الرحمن والتعقيب عليه مع بقاء مكانته العليا، وأحدد هنا ما وقع في فهمي من دمج طه عبد الرحمن في نقده لفلسفة الحداثة، لمسلكين مهمين بينهما توافق ولكن بينهما اختلاف كبير، وخاصة في مآلات هذه الفلسفة التي أسميت ما بعد الحداثة، أو كانت تبعاً لسلطان الحداثة ذاتها، وبين فلسفة التنوير الأول ودوافعه، وأين هو مركز الانحراف في الرؤية النقدية للفلسفة الأخلاقية لهذا الجيل، مع فهم الدافع التاريخي في النص الديني والسلوك الكنسي المسيحي.

       وهو ما يقتضي تفصيل مهم وتشريح معمق، ربما اقتضى فهم حياة أولئك الفلاسفة ذاتهم، ثم قراءة نصوصهم ومنعطفاتها، ولكنني اختصرها في هذه الدراسة، لتحرير موقفنا من فلسفة النهضة في الغرب، أهو مرفوض بالمطلق وباطل في كل قواعدها التـأصيلية، وخاصة المتعلقة بالعمران الاجتماعي، أم هي عالم ضخم من البحث والتأمل، حاول الخلاص من بيئة فاسدة ضيّعت خطاب الدين الأصلي في وحيه ومركزه الروحي الرشيد، ثم استتبع الفساد والطغيان السياسي على مجتمعاتها، ودَمج بين النص الديني المحرف وكاهنوته وبين السلطان السياسي.

       ففر أولئك الفلاسفة (في الجيل الأول) إلى نحت الدين الطبيعي في السلوك البشري، يبحثون عن الفطرة التي أنبتها الله في العالمين، وجاء الدين متمماً ومرشداً لها في رحلة الأرض وصلاحها العمراني الأخلاقي، الذي لم يجده فلاسفة التنوير الأول، في نصوص المسيحية وما خالطها من وثنية الرومان والإغريق، فأصابوا في بعض رحلتهم وانحرفوا معاً.

       ومع الجذر الذي قد يربط بين فلاسفة الحداثة العدمية الأخيرة، وفلاسفة النهضة الأوربية الأولى، وهو ما يفهم في سؤال الأخلاق لطه عبد الرحمن، إلا أن هناك تباين مهم بينهم، هو من أولويات فلسفة الاستغراب الشرقية، التي تحتاج إلى اعتناء خاص يصعب فيه الإجمال، بل قد يترتب على دمج المسارين خطأ كبير في التحرير، وفي التجريد الذي تحتاجه الأمم الشرقية، والقرية الكونية العالمية الباحثة عن الإنقاذ الأخير.

       وكون أن طه عبد الرحمن قد أدرج روسو، في هذه النظرية، وقد قضيت زمناً في دراسة فلسفته وحياته، ونقده من خلال الرؤية الفلسفية الإسلامية، فقد برز لي عدم دقة موقف عبد الرحمن، وخاصة بأنهُ في تدليله على موقف روسو استدل بعبارة التعبد للضمير، كمؤشر على أن روسو كان يعبد ضميره، وكأن الدين الطبيعي قد تحول لوثنية في ذاتية روسو الروحية، صنمها الضمير، وهذا غير صحيح، وبالذات في اعترافات الكاهن سافوا، الممتلئة بالدلالات الإيمانية الروحية التي أثرت في حياة روسو.

ورغم التأكيد على الفارق الكبير بين رؤية قلمي المتواضع، وفلسفة طه عبد الرحمن، إلا أن الواجب العلمي وأمانته، وبالخصوص ما نراهن عليه اليوم، من دور الفلسفة الأخلاقية في حوار الحضارات وفي التنوير الرشيد للعالم، تقتضي منا التوقف والمراجعة والنقاش، لتحرير مدار الخلاف مع أو حول الفلسفة الغربية المعاصرة، وركزّتُ على روسو بسبب قدرة التمكن للتحرير، مع احتمال وجود تقارب مع فلاسفة آخرين، لكن لا بد للناقد، من تحقيق أكبر مساحة تمكن لمواد فلسفتهم وحياتهم الشخصية، للقطع بوجهة النظر واستحقاقها للنقاش.

وأضيف إلى ذلك من أن هناك مهمة تتجاوز، رؤية طه عبد الرحمن ووائل حلاق، للعبور بفلسفة البناء الآخر لما بعد نقد الحداثة، تحتاج إلى العودة الى تجريد التراث الإسلامي، والذي دعا له عبد الوهاب المسيري، لتأسيس الحداثة الرشيدة، والتي باشرها عبد الرحمن بالفعل، غير أنها لا تزال في طور تنظير أسس الانطلاق.

 لكن هذا لا يكفي، فلا بد من انتقال الشرق، إلى البديل التأسيسي المؤهل لفلسفة المعرفة الإسلامية، التي تتداخل بل تستبق وتدفع لحياة العمران والرشد السياسي والحقوقي لشعوب الشرق، وهذه حالة مرت بها الفلسفة الغربية، فجزءٌ من تدافعها كان لنهضة قيم الحقوق وتحقيق موازين العدالة، قبل أن تخسف بها المادوية المتوحشة، فهلكت قيم الروح في مجتمعاتها، وارتدت على عدالة النظام الدستوري الذي سعى اولئك الفلاسفة لتحريره.

فأين نحن في النقد المعرفي الأخلاقي من هذه المهام، وأين تقف فلسفة البناء في تفكيك تاريخ الفلسفة الغربية ومعطياتها، وقضية تأميم الحق الإلهي في تكيّة المستبد السياسي القديم والجديد، وأين كل هذا من أزمة الشرق الكبرى، وكيف عُطلت مفاهيم الحضارة الإسلامية، وهنا مقصد المسيري في تجريد التراث للعالم الجديد، الذي ظل فارقه الأخلاقي ممتداً، وسُقيا روحه متدفقاً فكانت له بصمة خاصة، رغم سرقة الإسلام في بعض تاريخ المسلمين.

 فإن كانت هذه المهمة ليست من مسؤولية طه عبد الرحمن ووائل حلاق وحدهم، فعلينا واجب التحفيز لها، وتحرير المحاولات لعقدنا الاجتماعي ونظامنا الدستوري الحقوقي، الذي يُحقق الائتمانية والرحمانية التي ينادي به طه عبد الرحمن، ويطرحها محقاّ كرؤية حوار حضارات مقابل مآلات فلسفة الحداثة، ولتُحرّر المصطلحات الجديدة لبعد الرحمن وغيره، لا حرج في ذلك، لكن الأهم هو كيف الوصول إلى قواعد تنظير عملية، تباشر الحياة الاجتماعية والحقوقية والسياسية والاقتصادية، التي يشعر بها الإنسان المعذب من صلف الحداثة، ومن تزوير المستبد المتكئ على التراث، ولنا حديث أوسع مستقبلاً.