مهنا الحبيل

17/12/2023

لقد طرحنا في مقال الأسبوع الماضي، رحلة الغرب لانتزاع السيادة الشعبية، من أنظمة الحكم في القرون الوسطى، ثما ما تلاها من صراعات سياسية معقدة، ذهبت فيها تضحيات كبرى، عَطّلت بعدها القوة السيادية الشعبية في الغرب، القاعدة المطلقة للتغول السياسي العنيف، في حين استمر هذا التغول في عالم الشرق المسلم.

       ومن المهم التوضيح بأننا حين نُجرّد مسألة السيادة الشعبية في الغرب، لا يعني مطلقاً أننا نزكي كل تجربته، بل حتى الرحلة الديمقراطية ذاتها، تحولت في جوانب عديدة إلى أداة تغوّل للرأسمالية المتوحشة، على الإنسان في الغرب ذاته، وفي دحرجته نحو الإنسان السلعة المستهلك، وإنسان المادة المنتزع من أخلاقيات الروح، وقلنا ذلك حتى لا يقفز على بحث الجدل الحضاري كالمعتاد، اعتراضات صاخبة تَطرح ما فشل فيه الغرب، لوقف أي رؤية بحث وتأمل لضرورات الوعي الحضاري، التي تَنتخب فيه الأمم الرشيدة كل مصدر للقوة والعدالة لشعبها، فيضيع جوهر البحث بين صراخ المعترضين الذين لا يسمع بعضهم بعضاً.

أما السؤال التالي للوعي الرشيد، فهو في حاجة هذه المجتمعات عند نشأتها، وتطور حياتها وفقاً لمقتضيات العصور وطبيعة التفاعل مع حقب الزمان والحضارات، وهي حاجة قديمة لا حديثة، فهل مجتمعاتنا في الشرق حققت نجاحا عدلياً، بغض النظر عن المآزق الأخلاقية التي فشلت فيها الدولة المدنية في الغرب.

 وهل هذه المجتمعات الشرقية والمسلمة على الخصوص تحتاج أن تنظم إدارة حياتها وحقوقها، عبر تعاقد اجتماعي يحقق للفرد مساحة حقوق متساوية، بناء على المبادئ العليا لهذا العقد المتفق عليه، والتي ستُحدد وتوثّق بناء على العقيدة الفكرية الأخلاقية التشريعية الجامعة، وأصولها المفارقة هنا، عن أصول الفلسفة الغربية في المعتقد، وفي رسالة الإنسان في الحياة، وفي سيادة التشريع المختلف عن سيادة الأمة السياسية، فهل منظومة الإيمان تكفي للعبور إلى حياة المجتمعات وقوانينها.

إن هناك أزمة فهم عميق، في الخلط بين سيادة التشريع في مرجعيات الإسلام العليا، وفيما يقفز من اعتراض على السيادة الشعبية السياسية، التي حين تُنظّم تعاقدياً فهي في عالم الشرق المسلم، تمثل جوهر العقد السياسي للإسلام، لكن الكارثة أن هذه المرجعيات الشرعية الإسلامية، تم التلاعب بها من قديم، وتحويل فقهها من فريضة العدالة إلى جور الحكام، ومع ذلك لا يزال الصراع قائماً، في رفض الاستثمار للأدوات الدستورية، التي يتحقق بها واجب العدالة.

 أليست تلك الحاجة التي جُددت علم الاجتماع في الغرب بكل حيوية، وعُطلت في تاريخ المعرفة الإسلامية، هي حاضرة ومتصلة بقوة في أزمتنا الشرقية، ليس من خلال مناسخة المفهوم في الدستور وفي منظومات الحقوق، ولكن في فكرة تشريعه ونشر مفاهيمه وتربية الأجيال عليه، بناء على المقاصد العليا.

لماذا لم يكتفِ النبي صلى الله عليه وسلم بمفاهيم الإيمان، حين وصل إلى المدينة وقال للمجتمع اليثربي، أن هذه المنظومة ستكفيكم كإطار قانوني، وخلافاً لذلك عَمد عليه السلام إلى تدوين ميثاق المدينة، وإعلانه كتشريع توافقي بين المسلمين وغيرهم، وبالتالي دُشن في تاريخ التشريع الإسلامي أول تعاقد اجتماعي، وهذا يعني أن هناك مشترك بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، والأسرة الإنسانية في هذا الاحتياج الضروري.

لكن ماذا عن مفاهيم التفاصل والتجسيد لهياكل الدولة، بين الدولة الأممية وبين الدولة المدنية الحديثة، هل هذا يعني القطيعة مع الفقه الدستوري التشريعي، وهل هذه الدولة الأممية التي تأخرت أو سقطت في صراعات كبرى، منذ اللحظة الأموية وما بعدها، كانت في غنى عن منظومة تشريع للحقوق الدستورية، تنطلق من ميثاق المدينة، وتنظر في كل عهد وحضارة تتداخل معها، وأطوار زمنية ومجتمعات مختلفة.

 فتعقِدُ للمنفعة والحق إطاراً جامعاً، تحدده الشريعة لا الإنسانوية الغربية المادية، فهل غياب هذا المدار التعبدي في العمران الاجتماعي، كان لصالح المسلمين منذ الدولة الأممية حتى القطرية، أم كان أحد أسباب كوارثهم وسقوطهم وتخلفهم، وهزيمتهم أمام عدوهم وخذلانهم لأهل غزة وغيرها؟

       إن الجرد الموضوعي هنا يعطي نتائج مفجعة، لتاريخ المسلمين في قضية العدالة السياسية، رغم وجود نصوصها وجوهرها المعظم، لكن التزوير طال فقه التشريع السياسي، وتحرير منظومات الحق الفردي والسيادة الشعبية للأمة أو لكل شعب من أقطار المسلمين، بعد أن يتربى الفرد منذ طفولته، على أن الحق السياسي الذي فرضه الله له، ليس منّة من أحد، ولا يملك حاكم أن يسلبه منه، ولكن حين عُطل فقه العمران الاجتماعي وقطع الطريق عليه، تاه العدل في بلاد المسلمين وعجزت قوتهم، عن منع حكامهم من امداد طغاة الغرب والصهاينة الإرهابيين، فضلا عن نصرة المسلمين في فلسطين.