مهنا الحبيل
ماليزيا/ ديسمبر /2023
باسم الله الرحمن الرحيم
رسالة مفتوحة ل د. أنور إبراهيم
رئيس الوزراء الماليزي
دولة الأخ الرئيس د. أنور إبراهيم رئيس الحكومة الماليزية
رعاه الله ووفقه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد
استذكرُ اليوم حديثاً قلبياً وفكرياً مر بي، حدثتُ به بعض الأصدقاء وكنت قد نوهت به في مقالات سابقة وفي كتبي، خلال جمر محنتك وكفاحك، لكن هذا الحديث الخاص كان خلال زيارتين لكوالالمبور، قبل أن تتولى منصب رئيس الحكومة بعد رحلة العذابات الصعبة، في سبيل نهضة ماليزيا وحداثتها الإسلامية، وحصولك على ثقة جلالة الملك، سائلين الله أن يبارك في مهمتك.
ويجمع شمل شعب الملايو الحبيب في مشروع وطني موحد، تستأنف فيه ماليزيا قوتها ومسيرة بعثها الشرقي الإسلامي، يشارك فيه شعبنا المالاوي المسلم، إخوتهم من الجذور القومية الأخرى نهضة الوطن، ليتحد الشرق في مشروع وفكر ماليزيا الحضاري، الذي بُعث سر تميزه بنور محمد صلى الله عليه وسلم.
كان حديثي عن قصة الكفاح لك، وأختنا السيدة الكريمة معالي د. وان عزيزة بنت اسماعيل، في قصة استرداد المسيرة الديمقراطية، وما يعنيه لنا كون المرأة المسلمة المحجبة، وقفت بهويتها القيمية مع زوجها المفكر والقيادي المناضل، حتى استوت سفينة الشعب على الجودي، وعاد الشرق المسلم ليتنفس بعث الأمل للنمر الجريح في كوالالمبور.
ونحن كأهل الآفاق بالنسبة لماليزيا، كما يعبر علماؤنا رحمهم الله، ننظر لكم في كل أطيافكم السياسية، كجسم اجتماعي واحد ورث قصة الإقبال السلمي للإسلام، حين وفد عليه أهلُ التصوف والعرفان الروحي من اليمن، ومنذ ان تحولت أمة الملايو لقوة مواجهة أخلاقية ضد الغزو الغربي الآثم، ومذابحه الكبرى في شعوب الشرق، حتى مسيرة الاستقلال وكفاح التنوير الإسلامي الوطني الحقوقي، الذي لا يزال أحد سمات العهد الوطني المجيد، ولقد رأيته منصوباً في المتحف كما هو في ضمير شعبنا المبارك.
دولة الأخ الرئيس..
لقد كانت القصة الماليزية في ثنائية التنوير الإسلامي والنهضة العمرانية، تنطلق في أصقاع الشرق المسلم وضميره، تؤذّن باسم الفلاح وقيم الإنسان وتقدمه الاخلاقي، وحين نؤكد إنها كانت عبر التجربة الديمقراطية، فلا يعني ذلك أننا نزكي مطلق المصطلح ولا كل تجاربه، وخاصة بعد استخدامه والانقلاب عليه في السياسات الغربية الدولية، التي تتعاطى مع العالم الجنوبي كله بمنظورٍ أعور.
فمعيارها كان بالأمس واليوم منافقاً لا مصداقية له، ولكننا نُعلي بكل قوة مفهوم، الشراكة الشعبية والرقابة الوطنية للفرد لحماية مصالحه وثروته وقيمه الدينية والاجتماعية، وكون أن مفاهيم الإسلام الحضارية، هي مؤسسٌ صلب لكرامة وحرية الفرد المسلم وغير المسلم، ولذلك شُرّع التعاقد الاجتماعي، في سيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، قبل روسو ومن قَبلَهُ بمئات السنين.
فهي قضية تندرج تحت ميزان العمران الاجتماعي وفقه الشريعة فيه، والتي فرّط فيها المسلمون من قديم، ومعيارنا في الأصل أكثر مصداقية وأطهر في التعامل مع أمم الأرض، الذين سُحقوا وابيدوا منذ غزو الأساطيل الغربية لشرق آسيا والخليج العربي، حتى زمن عذابات الهنود الحمر السكان الأصليون لأمريكا الشمالية.
وصولاً لمحرقة غزة التي لا نزال نشهد فيها، أفران حرق الأطفال والنساء والخُدج والمشافي قائمة بين أعيننا اليوم، وكأنه فلم رعب خيالي، لكنه حقيقة تُشرف عليها وتدعهما القوى الدولية الغربية، وتنزع أمام العالم كله حق الإنسانية المقدس للمسلمين في فلسطين وغيرها.
الأخ الرئيس ..
لقد استحضرتُ تجربتك في بعث حضارة شرقية ذات جذور إسلامية، في متابعة آثار هذه الرحلة الماليزية، وأنا أنظر إلى تلك الروح الآسيوية الجميلة، للأخوة من مواطني ماليزيا من أصول صينية وهندية تنتمي لديانات أخرى، وفي حديثك المؤثر في رسالتك للمفكر الإسلامي الفقيد د. عبد الحميد أبو سليمان، رحمه الله، وكيف أنك تطمح الى عودة التضامن في الشرق، وأن فلسفتك لا تقف عند الإفادة من الرؤية الغربية في التنظيم المدني الدستوري، ولكنها تلتقي شركاؤنا الأقربون في الشرق.
وقد سبق أن كتبت مادة عن هذه التأملات، في هذا الانسجام الوطني، الذي يمر بتحديات، سيتجاوزها بعون الله، لكنه لا يزال يتمسك بهذا التعايش، بل تراه حاضراً في ثقافة المجتمع الماليزي، في ظل سقوط تجارب أخرى كان من أقساها واقع الهند اليوم مع الأسف الشديد، التي أخلت بميثاق المهاتما غاندي، وأصبح التطرف الديني يقود حكومتها.
إن هذا المشهد الحضاري التعايشي يفرحنا، وخاصة أن جذوره تقوم على الفكرة الإسلامية، وتفعيل مفاهيم التعايش المتواترة في سيرة سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المقابل نتفهم مخاوف الاخوة من أبناء الشعب، والمنظومات السياسية المتعددة، من أي تهديدات وجودية، تمس استقلالهم الذي كافح أجدادهم لأجله وواجهوا التوحش الصليبي لتحقيقه.
وخاصة في ظل تغير التحالفات الدولية ومداراتها الصعبة، راجين أن تلتئم الدول الملاوية الشقيقة، في منظومة مصالح مشتركة، تقويها جميعاً أمام زحف المحاور وصراعاتها المعقدة، دون أن يعني ذلك القطيعة أو الصراع مع البعد الإقليمي المهم، ومع الشركاء الدوليون في المصالح المشتركة، وإن كانت هذه المنظومة الدولية بحاجة ماسة الى قيم الاحترام وعدم فرض التبعية على عالم الجنوب.
وبعد عودتي من آخر زيارة في يوليو 2022، حيث تشرفت بتوقيع النسخة الماليزية لكتاب زمن اليقظة، في معرض الكتاب الدولي في كوالالمبور، وسرني جداً اطلاعك على نسخة منه في جولتك على المعرض، عكفت على دراسة مذكرات الرئيس المؤسس لسنغافورة، السيد لي كوان لمعرفة جذور خلافه مع الأمة المالاوية.
وهو زعيم شرقي نجاحه يضيف لتجربة النهضة في الشرق، ونجاح سنغافورة يمثل أيضاً دورة مهمة للتفوق والتعايش الشرقي، ورغم أن الدلائل التي استخلصتُها، كانت تعتمد على حديثه وتوثيقاته هو بنفسه، إلا أنني وجدتُ في المذكرات تقديراً سلبياً لرحلة الشراكة، وإن وجدت أخطاء وإشكاليات حقيقية لشركائه من المنظمة الوطنية للملايو.
إن المشكلة هنا هي ما قد يُفهم من مذكرات السيد الرئيس لي كوان، في أن خلافه مع الملايو، أستُخدم كمحاولة ضغط استعمارية بريطانية على ماليزيا المستقلة الحديثة، وأن مشروع لندن النهائي، هو في تحويل الملايو إلى شعب تشغيل لا قيمة سياسية متكافئة له مع غيرهم، رغم أن السيد لي كوان وثّق بنفسه دور ماليزيا، التي انقذت سنغافورة من الابتلاع الشيوعي، بالموافقة على دمجها في الاتحاد حتى ضمان الاستقلال لها وميلاد سنغافورة.
ونحن إذ نؤكد أهمية الشركة بين سنغافورة وأشقائهم في ماليزيا، ونثمّن مساحة حقوق المسلمين فيها ضمن الإطار المدني الدستوري، كما هو تطور العلاقة مع كوالالمبور اليوم، فيهمنا الخروج من هذا المأزق التاريخي.
وهذا هو مناط الخلاف الذي يهمني مع الغرب الأخ الرئيس، وأبناء ماليزيا أعلم مني وأدرى.
إن من الظُلم بمكان أن يُهمّش هذا التاريخ والانتماء الوجودي الإسلامي لماليزيا، وأن احتجاج البعض بعدم فاعلية الإنسان الماليزي، لا تُجيز له نزع حق الشعب في الكفاح لحماية مبادئه العليا في التعاقد الدستوري، دون أن يؤثر ذلك على مفاهيم المواطنة والحقوق الأساسية المشتركة، للأخوة مواطني ماليزيا، من العرقيات الأخرى، فالإصلاح والتنمية والتقدم، مع القيم الإسلامية وحماية الضمير الديني، لا يتعارض مع الوحدة الوطنية لكل أبناء ماليزيا، رغم خصوصية الاستقلال الإسلامي.
وهذا ما يؤكد أهمية توسيع أرضية التحالف الوطني الاجتماعي، وأهمية أن ينفتح بقية الأخوة على مشروعك القومي، الذي نرجو أن يتحقق في قيادتك للدولة، وعبر تسديد ودعم جلالة الملك، إذ أن ما يخشى منه الأخوة في الأطياف الوطنية الماليزية، قد يقع بسبب فرقة الصف الوطني، والذي يُرصد من القوى العالمية الأخرى، التي تسعى لاستغلال أي مساحة فراغ.
في حين هذا التآلف الوطني الاجتماعي الجميل لنموذج ماليزيا بين المسلمين وغيرهم، هي جغرافيا لم تتحقق في غالبية عظمى من دول العالم، وخاصة بعد عودة العنصريات التي تصعد في الغرب، راجين من الله أن يسدد جهودكم في جمع الكلمة وتعزيز المسيرة.
مذكرين بأهمية مراعاة الخطوات والمشاريع والخطابات التي تطرح، حول هذه المفاهيم، حتى لا يستثمرها بعض الخارج في تأثيرات سلبية على المجتمع الوطني، وأن تعبر ماليزيا الى مرحلة النمور الجديدة، القوية في حضارتها الإسلامية، وفي اندماجها الوطني، وفي تقدم شبابها نحو المستقبل المشرق للشرق، تلتقي فيه كوالالمبور مع كل شريك رشيد، وتتجنب كل تطرف من داخلها وخارجها.
مقترح منتدى حوار الحضارات
كما أنني أرجو أن تنطلق في ظل هذا التحدي الكبير للعالم الجديد، مهمة رسالية أخرى لماليزيا، من خلال تدشين منتدى لحوار الحضارات، هذا الحوار والتلاقي يأتي في ظل انكشاف أثر الفلسفة الغربية المعاصر، ودورها في إبادة المجتمعات الإنسانية المتعددة خارجه، ثم في تسليع حالة الإنسان، وتحويله لجسم استهلاكي تجريبي، تُطبّق عليه كل أوهام الجنسانية المتطرفة، وتخنق الأسرة والطفولة في سوق توحشها الرأسمالي، الذي بات يحاصر وجدان الأسرة الإنسانية بكل دياناتها ومذاهبها الوجودية.
فالبعث الجديد للفلسفة الأخلاقية في الغرب اليوم، رغم إيجابيته، إلا أنه يفتقد تميّز الفلسفة الإسلامية ونظرية المعرفة في العمران الاجتماعي وبعدها الأخلاقي المركزي، في ظل فراغ ضخم، ومخاطر يعصف بمستقبل الكرة الأرضية.
ومشكلتنا القديمة والحديثة مع الغرب، هو في رفضه الاعتراف بالمقابل الندي في الأفكار والحضارات، ولذلك فمجتمعه قبل غيره، لا يجد فرصة لسماع الفكرة الأخلاقية التي بعثت بها الرحمة السماوية.
وأنت أيها الأخ الرئيس د. أنور إبراهيم المفكر الذي عرفه الشرق المسلم، أولى بتولي هذا المسار، وتطبيق نموذجه المستقل في ماليزيا، ونحن بالفعل نحتاج لسياسة وهدوء خطاب ماليزيا، مع الغرب ولا نسعى للقطيعة، كما أن المركز الشرقي الذي تمثله كوالالمبور، يمثل حالة تواصل مهمة بين الغرب والشرق وبين عالم الشمال والجنوب.
حفظكم الله ورعاكم وسدد على طريق الخير مسعاكم في سبيل ماليزيا ونهضتها.
مهنا الحبيل
كاتب وباحث إسلامي
مقيم في
تورونتو – كندا
كتبت الرسالة في كوالالمبور ديسمبر 2023 م