مهنا الحبيل

4/2/2024

يسترسل روسو في حكاية جميلة وقصة شيّقة، أودعها كتابه إميل حين يصل إلى محبوبة ابنه الافتراضي الذي رباه ورعاه بالقيم التي يؤمن بها، وينسج روايته القصيرة في ثوب مخملي، من الكلاسيكية الرومانسية، التي تجتذب القارئ، وكأنهُ يرفع عن كاهله مواعظه الفلسفية، فيأخذه في استراحة على ضفاف الحياة، رغم أنها قصة من نسج خياله، لزوجة شابَّهُ الذي ربّاهُ ودربه وعلمه، ليقدمه كنظرية تربوية حديثة لأوروبا، وقد نجح في ذلك روسو، من خلال بلوغ نظريته للعالم التي بعثها التنوير القديم.

والمفارقة هنا أن هذه الأسس والتعليمات، باتت هباءً منثوراً في فرنسا وبقية اوروبا، في زمن الموضة التي هاجمها روسو بشدة، وأن كل تلك القيم التي سطرها روسو، هي اليوم بقضها وقضيضها مدعاة للتخلف، ومحل ازدراء من النظم السياسية والثقافية الغربية، وهجوم شرس بل تجريم من قبل منظمات مدنية وبالخصوص ذات النزعة الراديكالية النسوية.

وقبل الوصول إلى بيت صوفي، يتحدث روسو عنها وتنشئتها في اربع محاور:

العفة والفضيلة، والجمال والذوق، والدين الأخلاقي الذي يؤمن بالله، والتعلق بالوالدين، واكتساب تدبير المنزل وثقافة البنت الرشيدة عبرهما، وكأنما روسو رجل شرقي يتحدث عما تحتاجه هذه الأُسرة، لمواجهة رياح سلوكية وفكرية تعصف بها، حتى تكاد أن تشكك فيمن يحدثنك هنا، أهو روسو صاحب العقد الاجتماعي، أم رجل يحكي فلسفة الشرق للعالم الجديد؟

يُنظم روسو بدقة وعبر منهج محافظ حركة النمو لدى الفتاة، ورعايتها في أدب جم، ونبل سلوكي راقٍ بين والديها، فتتهذب باحترام الكبير وتقديره، ومراعاة شبابها وجمالها، ألا تختطفه أيدٍ خبيثة، تريد أن تلتقط منها لحظة شهوة لصالح نزوات رجل، لا يُقدر قيمة الزواج ولا مفهوم الشراكة، وبالتالي فهي تتعلق بتعاليم والدتها، وهي جميلة ليس بفتنة وجهها، ولكن عبر رقتها وذوقها وأدب حركتها، وطقوسها العفوية، وليست متبرجة بل محتشمة ترفض استعراض مفاتنها، ومهرجانات التزيّن وتضبط اختلاطها بالرجال.

وصوفي حسب وصف روسو، ثَبُتَ الإيمان بالله في قلبها، وأن مفهوم التعبد للخالق في ضميرها، هو بعمل الخير، ودُربت على العمل المنزلي وإدارة البيت ومساعدة والديها، وهذه الدُربة، لم تتعارض مع تعليمها حسن الحديث، وأدب المجلس والذوقيات العامة مع الوالدين والمجتمع، التي لا تكاد تُرى اليوم في المجتمعات

 الغربية، وإن بقيت في بعض الأرياف، فروسو قبل أن يأتي مع فارسه الشاب للقاء العفوي بمنزل صوفي، كان يقدم عقيدته التربوية في البيت النموذجي، وبالطبع أفاض هنا في تخصيص مساحة الانثى في العلوم.

       فهو يرى أن سعادة المرأة هو في منزلها الأخير، حيث الزواج والزوج الكفوء، وهو اذ يكتفي بأنه ضمِنَ لها الزوج المؤهل عبر إميل، لكنه لا يناقش الفرضيات الأخرى التي قد تصدم بها المرأة، بل إنه يقرر بحتمية قطعية، أن الفتاة تحتاج أن تُعوّد على الخضوع، بسبب تعسف الرجل واحتمال حماقاته، وهذا أمر لا حظنا فيه نزعة تشدد.

       ليس من خلال رفض أن العبور للاستقرار يحتاج للتفاهم والتوائم، وأن روح السكينة والحب ستتنزل على البيت، ولو بعد معاناة، ولكن في قَصرِ مساحة المرأة في ذلك، وهو ما يختلف عن الرسالة الإسلامية، التي دعت للتوازن وحرّضت الزوج بشدة، على ضبط سلوكه واحتمال معادلة العاطفة القوية عند المرأة، وجاء ذلك في النص وفي المنهج العملي لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم.

       وحين يفتح روسو سيرة الحب بين إميل وصوفي، بعد أن قدّم لها بقصة جميلة عن تيههم في الغابة، وعن سر السفر والترحال، وفائدته المجهولة منذ ذلك الزمن حتى اليوم، حين يُعزل الناس في مراكبهم رغما أنها كانت عربات تجرها الخيول، غير أن تنبيهه على فائدة التوقف في محطات السفر، والتنزه في الطبيعة، والتعرف على البيئات الاجتماعية لأهلها لفتةٌ مهمة، وهنا اختار روسو بيت صوفي بين أحضان هذه الطبيعة فهي الأقرب لفلسفته التربوية، وليس باريس ولا جنيف التي كره طبيعة الحياة فيهما.

وحين يغزل لنا قصة الحب الأول، فهو يُطرّزه بشروط العفة، سواء عند بدء التعارف وأدبه، بين الشاب الذي بدأ يتلمس روح الفتاة وجنوح مشاعره في الجاذبية لها، والتي تحركها الفطرة، وهي مرحلة تُختتم عند روسو عبر الزواج المحترم فقط، وليس عبر العلاقات الجنسية المتعددة، المرفوضة لديه.