خلاف مالك بن نبي مع جمعية العلماء
مهنا الحبيل
اعتمد خلاف مالك بن نبي مع جمعية العلماء، على مفهوم رئيسي، وهو أنه لابد أن تولد الجزائر الجديدة، على الهوية النهضوية الإسلامية، التي اختلف في تحريرها مع العلماء، في شقه النقدي الآخر، وإن كان ظل على موقفه من طهارة بن باديس، ولكنه صُدم من (اضطرار الشيخ) لمسايرة الحركة الوطنية حينها، خاصةً أن فرحات عباس دُمغ اسمه بالكلمة الشهيرة، (أنا فرنسا وفرنسا أنا) وفي رسائله الأخرى للتقارب مع الروح الفرنسية، وهي قضية تحتاج الى تحرير، إذ أن مقولة فرحات عباس، كانت سابقة لتغير موقفه ثم اندفاعه للكفاح ضد فرنسا، كيف نحكم على مصداقيته التي شككت فيها بعض المصادر، وأين تُفرز حياة فرحات عباس، هذه قضية خطرة لا يمكن أن نجزم بها.
لكن مجمل الحياة السياسية وسجلات الثورة، يشير إلى تداخل معقد بين فرنسا، وبين البنية الثقافية لأبناء الجزائر (الفرنسية)، وأن إشارات مالك بن نبي، إلى أن هناك كتلة اجتماعية منفصلة عن روح الإسلام، مستلبة فكرياً لباريس، لها ما يسندها من التاريخ الوطني، ولا يلزم من ذلك أنهم جميعاً في خانة العملاء، ولذلك نلاحظ تحفظ قادة وطنيين، على دمغ كل من انضم للصف الفرنسي الوظيفي التكنوقراط، أو السياسي أو حتى العسكري قبل انشقاقه، انه عميل بالقطع، ولا يلغي ذلك عمالة بعضهم الخطر جداً، ووجود اختراق نوعي عادت به فرنسا.
وحين نقارب الوصول للكفاح الذي وضع مالك بن نبي نفسه فيه، فهو المفاصلة مع الإرث الفرنسي الفكري، ورفضه لبعض التموضعات السياسية لقادة الحركة، فهي لديه صراع مبدأ لقيام الجزائر المستقلة، المتحررة من الفرنكوفونية والقابلية لها، فإذا أضفنا اعتقاد مالك بن نبي بأن هذا الجناح الاجتماعي (الفرنسي) القوي في الحراك الوطني، والديني النفعي المتعدد المرتبط به، شارك في حصاره وقمعه شخصياً، والذي استمر حتى رحيله، بعد أن أُقصي وعزل بقسوة في وطنه.
فهنا يظهر لنا لماذا كان مالك بن نبي، يستدعي مشكلات النهضة في حياته الجزائرية؟
هذا الغضب قد يكون وسّع رؤية المجهر المنفعل، لا الدقيق، في حياة مالك بن نبي، وساهم في تعزيز حصاره، رحمه الله، غير أن المشروع الآخر الذي اختلف معه في نفوذ الفرنكوفونية ومفاصلتها الفكرية مع الشرق الإسلامي، خدم بلا شك باريس ما بعد استقلال الجزائر، وساهم في اعاقتها عن سبيل النهضة، وهو هنا يطرح سؤالاً عن دور عسكرة الجزائر، في قمع العودة الى شروط النهضة، والتي كان رائدها مُغيّب عن موضع القرار فيها، ورحل في قلب العاصمة، كغريب طريد لا عزاء له إلا بعض تلاميذه، ثم بركة الله على كتبه.
يأخذ بن نبي على الشيخ بن باديس تنازل الوفد الإسلامي الجزائري عن استقلاله، لصالح د. بن جلول الزعيم السياسي المعروف، وأن هذا الوفد في زيارته لباريس، كانت توضع على طاولة قائده المشروبات الروحية، وأن تراجع العلماء الى الصفوف الخلفية، وراء الإطارات السياسية لأبناء الجزائر قبل الثورة المسلحة، كان عنصراً خطيراً أضعف روح السلفية الثورية، التي ظل يُذكّر بها مالك بن نبي، ومع أنهُ شدّد هجومه على جمعية العلماء، إلا أنهُ أبقى تقدير ابن باديس حياً في روحه.
والوصول إلى مرجعية مستقلة، في الحكم على موقف مالك بن نبي، صعب جداً، وخاصة أن حجم ما نشر عن مذكراته (العفن) لا يقدم أجوبة صريحة، وبالذات حين يشار إلى بعض الوثائق التي لم تصل للرأي العام حول مالك بن نبي وحياته وعلاقاته، مع شخصيات الجزائر ومع المطاردة الفرنسية بالذات.
غير أننا نستطيع أن نستنبط أن غضب مالك بن نبي، وفورات تعبيراته المتكررة، تحمل نزعة مبالغة حادة، بل وحتى تجاوز على موقف جمعية العلماء، ليس لعدم ورود أخطاء كبرى، وأهمها أن الجمعية اُخضعت بالفعل، للإطار السياسي من بن جلول حتى فرحات عباس، كما يؤكد ذلك بن بلة في شهادته على العصر.
لكن بسبب صدمته من نماذج بعض علمائها، من حيث سوء مواقفه الشخصية والوعظية والتربوية، ومحادته وغِيِرتِه من مالك، وهذه الروح لدى بعض العلماء في الغيرة من دعاة النهضة والإصلاح الإسلامي، غير مستغربة عند بعض العلماء بما فيه المساهمة في اغتيالهم فكرياً، لكننا نتحفظ على دمغهم بصفات صعبة وباستثمار باريس لهم، فضلاً عن تعميم مالك انطباعه على آخرين من جمعية العلماء، وعلى ارث الشيخ محمد بشير الإبراهيمي، الذي انتقده مالك بن نبي.
وتتبين مبالغة وحدة مالك بن نبي في موقفه من الفضيل الورتلاني، وهو أحد الدعاة الإصلاحيين، المنخرطين في دعم الثورة والجهاد الجزائري.
فعدم تفاعل الفضيل الورتلاني مع مالك بن نبي، لا يُلغي جهود الورتلاني في بعثة الشيخ بن باديس، لتنفيذ مشروع تثقيف إسلامي تربوي وأخلاقي، بين أبناء الجزائر في فرنسا، والذي عارضته بعد ذلك قيادات الأطر السياسية في عهد مصالي الحاج، وهو ما يردُّ على مالك نفسه، حتى مع كون هذه الثقافة لا تُغطي مشروع النهضة المقاصدية للإسلام، التي يدعو لها مالك بن نبي.
فرغم أهمية الانتفاضة العقلية الإسلامية التي أطلقها كمقدمة لأفكار النهضة، إلا أن هناك أطراً أخرى للحياة الإسلامية، لها أهميتها الخاصة، والحالة التي وثُقت عن واقع الجزائريين الديني والفكري في فرنسا، والتي عرض لها مالك بن نبي نفسه، تؤكد أهمية هذه الحملة التنويرية الإسلامية.
التي وجه لها الشيخ ابن باديس، ونفذها الورتلاني قبل استهداف السلطات الفرنسية له، وهروبه الى إيطاليا، ثم مصر، ثم قناعة الورتلاني بدعم الحركة الوطنية في اليمن بشقها الإسلامي والسياسي ضد منظومة الخرافة والاستبداد للعهد الإمامي، تؤكد نموذجه التفكيري المختلف وتُشكّك في سخرية مالك بن نبي منه.