أزمة المستقبل الإسلامي
مهنا الحبيل
عنوان المقال هو كتاب جديد، يصدرُ قريباً بعون الله، وهذا الكتاب يخرجُ في فترة زمنية حرجة أخرى من تاريخ الوطن العربي، وعلاقته بالفكرة الإسلامية، كرسالة إيمان وفلسفة عمران، والمصطلح الأخير، هو مركز موضوعي لرسالة هذا الإصدار، فاليوم يعيش الوطن العربي، وحاضر العالم الإسلامي، دورة تفكك جديدة تُنهك المجتمع والأوطان، والأفراد ذاتهم، فمؤشرات سقوط الدول التي لم تسقط بعد في وحل السيولة تتعاظم، وتراجع الحد الأدنى، من منظومة الاستقرار الاجتماعي والقيم الأخلاقية مستمر، وحالة التهجير والمآسي الإنسانية تتراكم، دون أفق للحل.
وانتقال دورات الصراع السياسي، التي تُشعل فوضى عارمة في الدول مستمر بفعل فاعل، وبعض هذا الفعل تسلل إلى هذه الدولة أو تلك، من خلال أخطاء سياسية أو جهل فكري، أو عجز إداري لفقه الدولة والمجتمع، بين مقاصد الشريعة، ومعالم البناء الإنساني المعاصر، ولذلك قلتُ أن الإصدار يُمثل محاولة بعث لفلسفة العمران الغائبة، ولكن بلغة مفهومة مبسطة قدر الاستطاعة، فكل فصول هذا الكتاب عندما حُرّرت، كانت ضمن سياق المؤلف وهدفه في مشروعه الفكري، بالبحث عن مواضع الخلل والداء العضال، الذي أعاق نهضة هذا الشرق.
رغم أن الشرق يحمل خلطة إنقاذيه لذاته، ودوائية لأسئلة الصراع والتقدم الأخلاقي، للضمير الإنساني، وهي المهمة الأخرى التي أَنشغلُ بتحريرها، ليس من خلال نَصب منبرٍ، يُباهي بالحقيقة الإسلامية، وهي حقيقة مستحقة للاعتزاز، ولكنها واجبة في التفعيل لروحها وتشريعاتها، الأخلاقية والعمرانية.
وهو ما فشل فيه المسلمون، في هذه الدورة الأخيرة، من تاريخ العالم، وبالتالي تمكنت القوى المعادية لرسالتهم، وللعدالة الإنسانية معاً، من هدم مساحات أخرى، من استقرار أوطانهم، وتأميم ثرواتهم، ومواصلة العصف الثقافي الهائل، على ضمير الشباب والنشأ، واختطاف آخر معالم الإسلام من قلب الذات والمجتمع.
ولستُ هنا ارسم صورة سوداء وهمية، ولكنها حقيقة ماثلة أمام الرأي العام والمراقب الخاص، في سؤاله البسيط:
ما هي أحوال المسلمين اليوم، وأين هي أوطانهم من معالم الرسالة الإسلامية، في العدالة السياسية والاجتماعية، وموقع الحكومات منها، وفي أخلاقيات الفرد والشعوب؟
في حين نُدرك بسهولة هشاشة الممانعة الأخلاقية في الذات الشعبية، عند كل دورة تصعيد عنصري، أو إشغال سياسي أو رياضي في توافه الأمور.
ولم يعد هذا المرض رهناً للعامة، ولكنهُ أيضاً أصاب بعض النخبة أو أغلبها، من الذين احترفوا خطاب العاطفة الصاخب، ونبذوا بناء المعرفة الواجب، لتأسيس وعي جديد لجيل ينهض بالأمة ولا يغرق في تفاصيل الصراعات، أو المنابر الوظيفية التي تورط فيها أولئك الدعاة والمثقفين الإسلاميين، فزاد الحمل اليوم على دعاة الإصلاح الفكري.
ولسنا نُضيّق واسعاً، ولا نزعم احتكار الرؤية، ولا حتى حبسها في نطاق معين من صياغة مشروع فكري تنهضُ به الأمة، فالقيام بهذا الواجب، تتعدد فيه السبل، كما إن حاجة الإنسان المسلم، الى أطر متعددة من الخطاب الديني، في تربية النفس وفي فقه الأحكام، وفي غيرها، تخدمه منابر حاضرة، ولا تزال معامل الإيجابية تحرث في هذه الأرض.
لكننا نعاني ولا نزال من تعطيل فقه حل الأزمات، وبناء الأوطان، ورص المجتمعات، وعضدها بتعاقد اجتماعي دستوري، لا يُطفّف ولا يتلاعب بالحقوق، تقوم عليه وحدة كل قطر وتقدمه ونهضته، ويُحيّد الفساد إن لم يقتلعه، ولا يَجعل الإسلام مطية لسلطته ولمشيخته المتواطئة معه، ولا يتدثر به طائفياً، ليصنع عصبية له دون الناس والحق العام، ولكن مرجعاً عدلياً وأخلاقياً في ضمير الحاكم، قبل وعظ الناس.
هذا التقدم حين يصل كل قطر، أو حتى بعض أقطار المسلمين، فإن الوحدة الأممية في سبيل مشروع جامع ورادع لأعداء الأمة والإنسانية الحرة، تقوم بهذه النواة دون ثوب فضفاض يزعم الخلافة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ليُحقق مطمعاً سلطوياً، على حساب الناس باسم زعامة الأمة أو إمامته العامة.
والوصول الى أرضية الخلاص، التي حرص عليها دعاة النهضة الإسلامية الأوائل، لا يزال بعيد المنال مع الأسف، رغم كثرة المحاضرات والإصدارات، بل والفعاليات، منذ اطلاق مصطلح الصحوة الإسلامية، لكنها لا تزال منقطعة الطرق، متباعدة التوحد والتنسيق، تائهة في الأولويات، إلا ما قل من هذا الجدل، الذي يَطرح سؤال الأزمة، لكنه لا يواصل الحرث، ولا يقبل التعاون والتعاضد، ولذلك فهذا المستقبل الإسلامي المنشود، حين نقصد به ما ذكرناه آنفاً من علامات رشد للدولة والمجتمع، يعيش دورةً أخرى من الضياع، تحتاج من جديد، أن تسجل معالمها، وأين أخفقت في الوصول الى الطريق المنقذ.
فالكتاب يُوثق بعض هذه الأخطاء، ويُحاول إعادة طرح رؤية التصحيح المفترضة، التي تنطلق من جديد عبر قاعدة الفكر، لا صخب السياسة والمواعظ، ويستدعي نماذج معينة درسناها، لهذا الهدف وللبحث في سؤال الفكر والنهضة، آملين أن تمثل فصوله قيمةً ذات شأن، حين يعبر القارئ الكريم إلى ضففه، وأن يجد دلالة العنوان ومقصده، وفي ذات الوقت يجد في المادة نفسها، رأي واجتهاد الكاتب في سبيل المخرج المفترض لهذا المأزق، فيوافقه أو يختلف معه.
لعلنا ننجح بفضل الله وبركته على هذه الأحرف، من مواصلة الطريق، نحو صناعة وعي جديد لجيل نهضة نوعي في فكره، كما هو عميق في ايمانه وروحانيته، متميزاً في أخلاقياته، فهذا هو هدفنا المركزي، للمساهمة في صناعة مستقبل إسلامي، لا ينعزل عن وطنه وشعبه، ولا يجهل الواقع الصعب، ولكن يبعث عقله في أرض الله ليدرك فقه الحياة، الذي يعمر الأوطان ويحرر الضمير المعتقل بين الناس.