روسو حكماً بين الرئيس مرسي والسيسي

قد يظهر من الأحوال ألف (مسألة) لم يعالجها المشرّع قط، فمن الفطنة اللازمة جداً، ان يُشعَر بأنه (البرلمان التأسيسي) لا يمكن أن يفطن إلى كل شيء.

جان جاك روسو

يُحذّر روسو من أن صلابة القانون، قد تأتي بنتائج عكسية، وبالتالي لا بد من مرونتها، لكنه يُعبّر بعد ذالك عما يمكن أن نسميه، (الانقلاب الدستوري) أو اسقاط النظام من داخل هيكلته الذاتية، ونستطيع أن نستشرف حصول هذه الأوضاع في انقلابات كثيرة حول العالم، وخاصةً استدلال الفريق المنقلب بأنهُ جاء عبر قانون دستوري نافذ، وغالباً يكون نموذجاً أسوء من واقع الدولة في حينه.

       ويرى روسو بأن ما يسميه مس سلطان القانون المقدس، أمرٌ خطير، لكن ذالك يُبرّر فقط عندما يحيق الخطر بسلامة الوطن، وهو ذات المبرر الذي عاشته مصر، من طرفي التفويض لصالح الرئيس أو الانقلاب عليه، وهنا ينص روسو على تفويض الأجدر، وهو ما يعني أنهُ تفويض قد يُنحّي الرئيس ويأتي ببديله، هذا البديل قد يكون بديلاً مزعوماً للإصلاح فيما هو قوة انقلابية سيئة، أو يُعلق الرئيس الدستور لمنع الانقلاب، فهنا روسو يضع أساساً لهذا التشريع، ويُبرر له بأن هدف الإرادة العامة ألا تَهلُك الدولة، وبالطبع مقصد روسو هنا ليس انقلاب المسيء، ولكن من يضبط التقدير في حينه!

       كما أنهُ يُدرج نموذج الحكومة المصغرة، لإثنين أو ثلاثة أعضاء، وحصر الصلاحيات في يديهم، كمخرج أقل خطراً، من الانقلاب الدستوري، ويستدل بإحالة مجلس السنات الروماني الحُكم في النظام الجمهوري، حين فوض مجلس الشيوخ أمر الدولة إلى الحكم القنصلي، وكانت روما حينها تحكم بقنصلين (كرؤساء للسلطة التنفيذية) دون الرجوع إليه.

       ويُبرر روسو عدم الخوف من التحول إلى الحكم المطلق حينها، في التجربة الرومانية، بأن هذا المرتكز الأخلاقي (الخوف من انقلاب المستبد)، لم يكن حاضراً بسبب أن طبيعة الحكم حينها كانت عبأً مطلق، وبالتالي فإن أطراف التكليف يسارعون إلى القاء الحمل عن كاهلهم، لكن أين هذا من واقع اليوم في انقلابات الدول الدستورية (تونس قيس سعيد نموذجاً)، فالبعد الأخلاقي هنا حاضر، بقوة يشكك في نوايا المكلفين المزعومين لإنقاذ الوطن.

       ورغم أن هذا التلاعب وارد، بما فيه أمثلة من روما القديمة، أي نوايا الحكم المفوّض المعطل للقوة التشريعية، إلا أن روسو يُصّر عليه، مستدلاً بنماذج مؤامرات نجحت، كان من الممكن أن تُحبط، لو قُدّر لها تفويض السلطة (الصالحة) حينها، وهذا قد ينطبق على نماذج معاصرة ايضاً، حين يفوّض الرئيس نفسه من مجلس الشعب لوقف الانقلاب.

رغم أن روسو يعود للتشديد على ضبط فترة الاستثناء التفويضي، وألا يكون الحكم قد أخل بمصداقيته، وبشرعية قراراته، ومنها تعليق الدستور.

في نهاية الأمر، تُفيد خلاصات التأمل عبر منظور علم الاجتماع السياسي في عالم اليوم، إلى أن مدخل التفويض نحو الحكم المطلق، لا يُمكن النظر فيه، إلا من خلال تعطل قدرات الدولة، ووسائط مدافعتها فعليا، وأن ذالك يحدده دوماً دقة بصيرة، تحتاج لفهم نوازع طلب التفويض الشخصية للحاكم ونخبته، وبين الظروف الواقعية للدولة في مستجدات الأزمة التي تشتعل فيها وحولها.

إننا الآن بعد عرض دقيق، لأصول التعاقد الاجتماعي وفلسفته، حررها روسو في القرن الثامن عشر، ومركز رؤيته دوماً، هو الحفاظ على حق الإرادة الشعبية، وسلطتها الرقابية، فضلاً عن انحياز روسو دوماً للطبقات المسحوقة، فلنراجع هذه التحريرات في النموذج المصري، قبل انقلاب وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي على الرئيس المنتخب د. محمد مرسي، الذي اتضح هدفه باعترافات رسمية عديدة، أن 30 يونيو كانت تحت تمويل ودعم خارجي، معادي لمصالح الشعب وإرادته العامة في ثورة يناير.

فما هي المساحة التي كان يمكن للرئيس مرسي أن يتخذها قبل الوصول إلى أرضية الانقلاب في 30 يونيو، ووفقاً لمعطيات روسو هنا في العقد الاجتماعي، هناك إشكالية كبرى قبل ذالك سيطرحها سؤال مشروع.

 وهي ما هي قدرات الاخوان وحلفائهم حينها، للحصول على تفويض استثنائي، وهو ما يستبطن سؤالاً قبله، وهو حجم قدرة الإخوان في الأصل على تحقيق ذالك التوازن، عبر مرشحهم الخاص، مقابل مرشح وطني توافقي، قد تتاح له الفرصة لكي يعبر بمستوى جيد من بقية الثورة، يضمن لها ألا تصل إلى المستوى الذي وصلت له مصر، من الانهيار والمذابح الحقوقية، التي راح فيها عشرات الشهداء بين قتيل وسجين، أو مئات الآلاف من المهجرين، ومن السقوط الاقتصادي التاريخي، بين ارقام مرحلة الرئيس مرسي ومرحلة السيسي.

ومن فقدان القدرات التوازنية الاستراتيجية في عهد الرئيس المعزول مبارك، في العلاقات الخارجية، وهيبة شخصية الدولة في مصر، وبين المشهد الحالي للدولة، فضلاً عن الموقف التاريخي للرئيس مرسي مع غزة في دورة عدوان صغيرة قبل المذبحة الكبرى اليوم.

فلو تجاوزنا ذالك كله بما فيها قدرات الإخوان وتقديراتهم، فإن قضية التفويض يتعارض فيها الحراك القانوني السياسي السريع التفاعل، لوقف المؤامرة كما يسميها روسو، مع إشكالية أن الرئيس مرسي يعود لمكتب الإرشاد، وهو ما لا يسمح له بحسم اصدار قوانين كبرى وقوية، تُفعّل حقه في التفويض.

 ولو تجاوزنا هذه النقطة المهمة، فإن تقدير روسو، ينحاز إلى مرسي بحسب المشهد، وروسو بالمناسبة لا يضع أي نسبة مراعاة للمشاعر النرجسية، التي ضخ بها شارع 30 يونيو خطابه، قبل اتضاح أنها مجرد مسرح هلامي، يستبق العاصفة الكارثية، فهل كان للرئيس مرسي رحمه الله مساحة قبل 30 يونيو، بأن يباشر مسؤوليه الحكم القومي لمصر دون خيرت الشاطر، أو مكتب الإرشاد؟

 ثم ينسق مع قيادات من الجيش، يباغت بها القيادات المتورطة في المؤامرة، أم ان ذالك كله خارج نطاق التجربة، لخلل ذاتي فيها.